اتفق العلماء والباحثون المعاصرون -ولا سيما من لهم عناية بالسياسة الشرعية- على أنَّ السيادة العليا في الإسلام للشريعة ممثلة في نصوص القرآن والسنة؛ لأنَّ هذه الحقيقة مما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة؛ فلا سيادة تعلو سيادة الكتاب والسنة وهيمنتهما على غيرهما من الكتب والشرائع السابقة؛ فضلاً عن آراء عموم الناس وأقوالهم ونظرياتهم البشرية.
قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ).
وقال سبحانه: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَتَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
والحقيقة أنَّنا عندما نضطر إلى توضيح الواضحات، سنجد معاناة تشبه معاناتنا عندما نحاول إثبات أنّ الشمس هي الشمس لمن لا يمكنه التعرف عليها! وهكذا الشأن عندما يتحدث المسلم عن قضية قطعية؛ ولذلك فمن المنهج العلمي العملي معرفة موقع الحقيقة المتفق عليها من عقيدة أهل الإسلام، وليس بالضرورة تعداد أدلتها النصية وغيرها لكثرتها، ولكون الاشتغال بها قد يوحي بأنَّ في المسألة خلافا مع أنَّه لا خلاف فيها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنَّ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لجميع النّاس: عربهم وعجمهم، ملوكهم وزهادهم، وعلمائهم وعامتهم؛ بل عامّة إلى الثقلين الجنّ والإنس. وأنها باقية دائمة إلى يوم القيامة، وأنَّه ليس لأحدٍ من الخلائق الخروج عن متابعته وطاعته وملازمة ما يشرعه لأمته من الدين، وما سنّه لهم من فعل المأمورات وترك المحظورات؛ بل لو كان الأنبياء المتقدمون قبله أحياء لوجب عليهم متابعته وطاعته.. بل ثبت أنَّ المسيح عيسى ابن مريم إذا نزل من السماء يكون متبعا لشريعة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم… فكيف بمن دونهم، بل مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام: أنَّه لا يجوز لمن بلغته دعوته أن يتبع شريعة رسول غيره كموسى وعيسى؛ فإذا لم يجز الخروج عن شريعته إلى شريعة غيره، فكيف بالخروج عنه وعن الرسل؟! ” [مجموع الفتاوى:11/424].
قال الشيخ محمد شلتوت رحمه الله: “العقيدة في الوضع الإسلامي هي الأصل الذي تبنى عليه الشريعة، والشريعة أثر تستتبعه العقيدة، ومن ثم فلا وجود للشريعة في الإسلام إلا بوجود العقيدة، كما لا ازدهار للشريعة إلا في ظل العقيدة؛ ذلك أن الشريعة بدون العقيدة عُلُوٌ ليس له أساس، فهي لا تستند إلى تلك القوة المعنوية، والتي توحي باحترام الشريعة، ومراعاة قوانينها، والعمل بموجبها دون حاجة إلى معونة أي قوة من خارج النفس.
وإذاً فالإسلام يحتم تعانق الشريعة والعقيدة، بحيث لا تنفرد إحداهما عن الأخرى، على أن تكون العقيدة أصلا يدفع إلى الشريعة، والشريعة تلبية لانفعال القلب بالعقيدة، وقد كان هذا التعلق طريق النجاة والفوز بما أعد الله للمؤمنين.
وعليه فمن آمن بالعقيدة، وألغى الشريعة، أو أخذ بالشريعة وأهدر العقيدة، لا يكون مسلماً عند الله، ولا سالكا في حكم الإسلام سبيل النجاة ” [الإسلام عقيد وشريعة].
وقال الدكتور عبد العزيز عزت الخياط: “والسيادة للشرع موضع إجماع المسلمين قاطبة، لا يشذّ عن ذلك واحد… فأهل السنة يرون أنَّ الإمام يستمد سلطته من الأمّة، سواء أكان المختارون له هم أهل الحل والعقد، أو من الأمّة بمجموعها إذا تيسر ذلك، وسلطته تستمد من الشعب، وإن كانت السيادة للشرع.
وهذا فرق آخر بين الديمقراطية والإسلام؛ فالسيادة والسلطة في الحكم الديمقراطي هي للشعب، بينما السيادة في الإسلام للشرع، والسلطان للأمّة ” [النظام السياسي في الإسلام -النظرية السياسية- نظام الحكم:73-74، وانظر:سيادة الشريعة للدكتور سعد العتيبي].