كان مفهوم دعوى (تحرير المرأة) السائد في أوربا يؤكد أن على المرأة أن تنبذ الدين لتحصل على حقوقها، فإذا لم تنبذ الدين فلن تحصل على هذه الحقوق.
والدين الذي نبذته أوربا حين قامت علمانيتها لم يكن حقيقة الدين المنزل من السماء، بل كان بقايا الدين المتناثرة في بعض مجالات الحياة الأوربية، أو في أفكار الناس ووجدانهم، ممزوجا بكثير من الخرافة والأباطيل والدجل.
وعندما نظر دعاة العلمانية في أوروبا إلى المرأة في جميع مجالات الحياة، لم يفرقوا بينها وبين الرجل في الناحية الاجتماعية، أو السياسية، أو الاقتصادية؛ بل جعلوها قسيما وشريكا له، وهو ما نتج عنه اختلالات واسعة على مستوى الأسرة؛ وأعباء مضاعفة على المرأة وتحميلها ما لا طاقة لها به.
وهذا ما يريده العلمانيون تماما من المرأة في بلدنا، يريدونها أن تتحرر=تنسلخ من دينها و شرفها وقيمها حتى يتهدم بيتها، ومن تم مجتمعها، وتنتشر الفوضى والرذيلة وتضيع القيم والمبادئ؛ وكل ذلك طبعا تحت شعار جميل طنان اسمه المساواة.
وقد وصف أحد الغربيين الواقع المؤلم والحملة الغربية الشرسة على المرأة في العالم الإسلامي بقوله: (إن التأثير الغربي الذي يظهر في كل المجالات، ويقلب -رأساً على عقب- المجتمع الإسلامي، لا يبدو بجلاء أفضل مما يبدو في تحرير المرأة) (الإسلام في الغرب، جون بول رو، ص:178).
هذا الاختلال الخطير الذي عرفته الأسرة أدى إلى بروز ظواهر اجتماعية خطيرة لم يكن لها ذكر من قبل في مجتمعنا، فأصبحنا نسمع -بين الحين والآخر- عن جرائم اجتماعية تضاهي الجرائم التي تحدث في أوربا وأمريكا من قتل واختطاف واغتصاب وتعذيب. ولا عجب أن تنتشر مثل هاته الأمراض الاجتماعية الفتاكة الناشئة عن فقد كل من الجنسين لخصائصه المميزة.
فـ”التربية غير السليمة لا يمكن أن تنتج إلا جيلاً غير سليم، ها هو ذا الجيل المعاصر المكدود تتجاذبه الشهوات والشبهات، وتمزقه التناقضات والغوايات، وتغتاله النزوات المتهورة والإغراءات القاتلة، فلا يستطيع إلا أن يسلم نفسه ذليلاً لشياطين الجن والإنس، ينهشون فكره وجسمه، ويلهبون ظهره بسياطهم؛ حتى يسقط شلواً ممزقاً على مرتع الفسق والإباحية”.
ويعد رفاعة الطهطاوي من أبرز دعاة تحرير المرأة في العالم العربي، فكل ما كتبه إنما هو صدى لفكر أوربا -وبخاصة فرنسا-، وقد وضع البذور الأولى من أجل الأخذ بنظم الغرب العلمانية، ثم تعهد تلك البذور الخبيثة -من بعده- حتى ضربت جذورها في الأرض بالسقي والرعاية جحافلُ من المستغربين والعلمانيين، أبرزهم قاسم أمين الذي وصف المرأة العربية بقوله: (إن النساء في كل بلد يقدرن نصف سكانه على الأقل فبقاؤهن في الجهل حرمان من الانتفاع بأعمال نصف عدد الأمة).
وهذا الأمر لا تكاد تخلو منه كتابات العلمانيين والمستغربين؛ وتطفح به جرائدهم ومجلاتهم كل سنة خاصة في ذكرى اليوم العالمي للمرأة؛ وهو الزعم بأن نصف الأمة معطل! وأن المجتمع يتنفس برئة واحدة! أو يطير بجناح واحد! ونحو تلك العبارات المخادعة التي توهم بأن النساء إذا لم يخرجن ويتحررن فإنهن يبقين معطلات في البيوت، ونسي هؤلاء بأن المرأة تنتج أكثر من الرجل من خلال رعايتها لبيتها وتربيتها لأولادها، ولكن (قد علم كل أناس مشربهم)، فللرجل أعماله المناسبة له، كما للمرأة أعمالها المناسبة كذلك، هكذا خلق الله الجنسين في توافق وتكامل.
وقال قاسم أيضا: (ومن غريب وسائل التحقيق أن تحضر المرأة مغلفة من رأسها إلى قدميها، أو تقف من وراء ستار أو باب ويقال للرجل: هاهي فلانة التي تريد أن تبيعك دارها أو تقيمك وكيلاً في زواجها مثلاً، فتقول المرأة: بعت، أو وكلت. ويكفي بشهادة شاهدين من الأقارب أو الأجانب على أنها هي التي باعت أو وكلت، والحال أنه ليس في هذه الأعمال ضمانة يطمئن لها أحد، وكثيراً ما أظهرت الوقائع القضائية سهولة استعمال الغش والتزوير في مثل هذه الأموال..الخ). (انظر المشابهة بين قاسم أمين في كتابه تحرير المرأة ودعاة التحرير في هذا العصر؛ سليمان الخراشي).
هكذا يلجأ العلمانيون إلى تضخيم ما يقع على بعض النساء من ظلم واستغلال، لا سيما والإعلام اليوم بيدهم في معظم دول العالم العربي والإسلامي، ثم يستغلون هذا الظلم الذي لا يكاد تخلو منه أمة سواء على المرأة أو على غيرها! في محاولة تمرير أفكارهم أو اقتراح حلول مخالفة للشريعة قد يتقبلها بعض السذج فراراً إليها من الظلم؛ فيكونون كالمستجير من الرمضاء بالنار.
فالقضية ليست تشكيكاً وشبهات فحسب؛ بل سلخ وعلمنة واجتثاث، ثم محاولة للإذابة في كيان آخر وثقافة مغايرة، هي العلمانية التي يرون أنها الأحدث والأرقى والأصلح؛ ولكن القوم يخفون ويضمرون ما يعتقدون ليقينهم أن المجتمع المغربي لم يُهيَّأ بَعدُ لتقبُّل مثل هاته الأفكار والمناهج.