الإسلام باعتباره دينا شاملا ومؤطرا لكافة مناحي الحياة لم يهمل الجانب الشهواني في الإنسان، بل نظمه تنظيماً دقيقا وبشكل يتماشى مع رسالته التي اصطفاه الله سبحانه وتعالى لها، وذلك من خلال نظام محدد يحميه من الانحراف والاندحار في براثين الإباحية السحيقة.
واعترافا بهذه الحاجة الغريزية وحضّا على تلبيتها، منع من الَتبتُّل والعزوف عن الزواج وزجر من يدعو إلى التبتّل والرّهبانيّة واعتبره مخالفا للسنن النبوية، ففي قصة الثلاثة الذين سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم قال أحدهم أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج فكان رده -بأبي وأمي هو عليه الصلاة والسلام-: «أما أنا.. وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني».
فليس من الزهد الابتعاد عن الزواج إذ الزواج هو الشيء الذي لم يزهد فيه الأنبياء؟ فكيف يزهد فيه من هو دونهم؟ وهم القمة في الزهد والتقوى والورع، قال صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين، فليتق الله فيما بقي» الصحيحة 625.
والواقع أن الإسلام قد عني بهذا الجانب الفطري من حياة الإنسان، ووضع فيه من القواعد والأحكام والتوجيهات ما يضمن أداءه لوظيفته، من غير غلو ولا كبت ولا انحراف.
وليس هناك عناية بهذا الموضوع الحساس أكثر من أن يذكر ويكرر في واحدة من أعظم سور القرآن الكريم وهي سورة البقرة:
أحدها: في أثناء آيات الصيام وما يتعلق به حيث يقول تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ}.
وليس هناك أجمل ولا أبلغ ولا أصدق من التعبير عن الصلة بين الزوجين في قوله تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) بكل ما توجبه عبارة «اللباس» من معاني الستر والوقاية والدفء والملاصقة والزينة والجمال.
الثانـي: قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}، وقد جاءت الأحاديث النبوية تفسر الاعتزال في الآية بأنه اجتناب الجماع فقط دون ما عداه من القبلة والمعانقة والمباشرة ونحوها من أنواع الاستمتاع.
وقد حفلت كتب التفسير والحديث والفقه والآداب وغيرها بكثير مما يتصل بهذا الجانب، ولم ير علماء المسلمين أي بأس في الحديث عن هذا الموضوع ما دام في إطار العلم والتعليم، وقد شاع بين المسلمين كافة هذا القول: «لا حياء في الدين»، أي في تعلمه وتعليمه، أيًا كان موضوعه، لا في أنه خصلة من خصاله إذ الحياء شعبة من شعب الإيمان.
وتحفل مكتباتنا الوطنية بمئات إن لم نقل آلاف الكتب التي ألفها علماء المالكية التي تعنى بموضوع العلاقة بين الرجل والمرأة، نذكر منها: تأليف في الزوجية لمحمد بن المدني كنون، وآداب النكاح ومعاشرة الأزواج ورياضة الولدان لأحمد بن عرضون، وقرة العيون بشرح نظم ابن يامون في النكاح للتهامي كنون، وكتاب النكاح لابن غازي… (انظر كتاب العلاقات الاجتماعية من خلال النوازل الفقهية بالمغرب، للأستاذ إدريس كرم).
إن الإسلام حين راعى قوة الشهوة عند الرجل، لم ينس جانب المرأة، وحقها الفطري في الإشباع بوصفها أنثى، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لمن كان يصوم النهار ويقوم الليل من أصحابه مثل عبد الله بن عمرو: «إن لبدنك عليك حقا، وإن لأهلك (أي امرأتك) عليك حقا».
ومما لفت الإسلام إليه النظر ألا يكون كل همّ الرجل قضاء وطره، دون أي اهتمام بأحاسيس امرأته ورغبتها. ولهذا جاء في الحديث الترغيب في مقدمات الجماع بما يشوق إليه من المداعبة والقبلات ونحوها، حتى لا يكون مجرد لقاء حيواني محض.
لم يجد أئمة الإسلام وفقهاؤه العظام بأسا أو تأثما في التنبيه إلى هذه الناحية التي قد يغفل عنها بعض الأزواج.
فهذا العالم الرباني الورع التقي أبو عبد الله بن القيم يذكر في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد هديه صلى الله عليه وسلم في الجماع، ولا يجد في ذكر ذلك حرجا دينيا، ولا عيبا أخلاقيا، ولا نقصا اجتماعيا، كما قد يفهم بعض أهل زماننا، وهو من هو في الورع والزهد والأخلاق. ومن عباراته:
أما الجماع والباءة فكان هديه فيه أكمل هدي، يحفظ به الصحة، ويتم به اللذة وسرور النفس، ويحصل به مقاصده التي وضع لأجلها. فإن الجماع وضع في الأصل لثلاثة أمور، هي مقاصده الأصلية:
أحدهما: حفظ النسل، ودوام النوع إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم.
الثاني: إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن.
والثالث: قضاء الوطر، ونيل اللذة، والتمتع بالنعمة. وهذه وحدها هي الفائدة التي في الجنة.
قال: ومن منافعه: غض البصر، وكف النفس، والقدرة على العفة عن الحرام، وتحصيل ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسه، في دنياه وأخراه، وينفع المرأة. ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يتعاهده ويحبه، ويقول: «حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة».
وحث صلى الله عليه وسلم أمته على الزواج فقال: «تزوجوا الولود الودود فإنّي مُكاثر بكم الأمم..» وقال: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج..»، ولما تزوج جابر ثيبا قال له: «هلا بكرا تلاعبها وتلاعبك».
ثم قال الإمام ابن القيم: «ومما ينبغي تقديمه على الجماع ملاعبة المرأة وتقبيلها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاعب أهله، ويقبلها».
وهذا كلّه يدلنا على أن فقهاء الإسلام لم يكونوا أبدا «رجعيين» ولا «متزمتين» في معالجة مثل هذه القضايا، بل كانوا بتعبير أهل زماننا «تقدميين» «واقعيين» «متفتحين» «متنورين»، لكن دون فحش أو بذاءة أو قلة حياء.