لماذا اخترنا الملف؟

معركة تحريف معنى النَّصِّ وتأويله على غير وجهه معركة قديمة، بدأت منذ عصر الصَّحابة رضوان الله عليهم عندما بزغ قرنُ الخوارج الذين أرادوا تفسيرَ النُّصوص الشَّرعيَّة وفهمها فهمًا مغايرًا لفهم أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

فخرجوا بمقولات عجيبة وآراء شاذَّة غريبة مخالفة لما كان عليه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم؛ فَكَفَّروا المسلمين بالذَّنب والمعصية، وخرجوا عن جماعتهم، فقاتلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه على هذا الفهم المحرَّف الجديد والتَّأويل المبتدع لكتاب الله.
ولذلك قال لهم ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما عندما ناظرهم: «أتيتكم من عند أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار، ومَن عند ابن عمِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وصهره، وعليهم نزل القرآن، وهم أعلمُ بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحدٌ» (رواه النسائي في الكبرى 8575 وحسنه الوادعي في صحيح المسند).
وقد أخبرنا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن هذه المعركة التي ستقوم بين المحرِّفين للنُّصوص عن معانيها، وبين أصحابه والتَّابعين لهم بإحسان المتمسِّكين بفهمها على المراد الذي أنزله الله تعالى؛ فعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: كنَّا جلوسًا ننتظر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فخرج علينا من بعض بيوت نسائه، فقمنا معه، فانقطعت نعله، فتخلَّف عليها عليّ رضي الله عنه يخصفها، فمضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومضينا معه، ثم قام ينتظره وقمنا معه فقال: «إنَّ منكم مَن يقاتل على تأويل هذا القرآن، كما قاتلت على تنزيله». فاستشرفنا، وفينا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فقال: «لا، ولكنَّه خاصف النَّعل». قال: فجئنا نبشِّره، وكأنَّه قد سمعه. (رواه أحمد في المسند والنسائي في السنن الكبرى، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 2487).
فقد أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن مجاهدين من أمَّته يقاتلون على تفسير وفهم القرآن والسُّنَّة؛ ليردُّوا الناس إلى الفهم الحقِّ لهما، كما قاتل صلى الله عليه وسلم في بداية الإسلام على إثبات نزول القرآن، وأنَّه من عند الله.
فالمعركة مع أهل التَّحريف والتَّأويل الباطل مستمرَّةٌ لم تتوقَّف على مرِّ العصور والأيام، وفي كلِّ زمان لها دعاتُها وأربابُها.
وفي وقتنا الحاضر يرفع رايةَ التَّحريف فئامٌ من الكتَّاب والمفكِّرين تحت شعارات مختلفة يجمعها المطالَبة بتحريف دين الله، وإعادة فهم الإسلام ليتوافق مع الواقع.
فمرة يرفعون شعار: «تجديد الفكر الإسلامي».
ومرة يدعون لـ: «تجديد الخطاب الديني».
واليوم تراهم يدعون إلى «تعدد القراءات»، ويطالبون بـ «إعادة قراءة النص الشرعي»؛ ليخرجوا لنا بـ «قراءة جديدة للإسلام» تتواكب مع تطوُّرات الحياة ومتغيِّرات العصر كما زعموا.
لقد أدرك أعداءُ هذا الدِّين أنَّ اللهَ تكفَّل بحفظ نصوص الوحيين؛ فهي تُتلَى على مسامع الأمَّة صباحَ مساء؛ ولذلك لم يكن لهم من مدخل يدخلون منه إلاَّ تحريف معاني ودلالات النُّصوص الشَّرعيَّة؛ وذلك سيرًا على منهج اليهود الذين قال الله فيهم: {يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75].
«ولمَّا كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنَّ هذه الأمةَ تتَّبع سننَ من قبلَها حذوَ القذَّة بالقذَّة… وجب أن يكون فيهم مَن يحرِّفُ الكلمَ عن مواضعه؛ فيغيِّر معنى الكتاب والسُّنَّة فيما أخبر الله به، أو أمر به…» (مجموع الفتاوى 25/130).
فها هي معركة تحريف معنى النَّصِّ الشَّرعيِّ وتأويله قائمةٌ في هذا الزَّمن تصديقًا لما أخبر به صلى الله عليه وسلم، ولا يزال الصَّادقون المخلصون من هذه الأمَّة يصدُّون أولئك المحرِّفين ويردُّون عليهم قراءاتهم المحرَّفة؛ لتحقيق موعود الله -جلَّ وعلا- في حفظ الوحي؛ «لفظًا ومعنًى»، والعاقبة للمتقين.
ومن الرسائل التي طبعت مؤخرا في هذا المجال رسالة للشيخ محمد صالح المنجد بعنوان (بدعة إعادة فهم النَّصّ)؛ اعتمد الشيخ فيها بدوره على كتاب (العلمانيُّون والقرآن الكريم) للدكتور أحمد إدريس الطَّعَّان، وكتاب (التَّيَّار العلمانيُّ الحديث وموقفُه من تفسير القرآن الكريم) للأستاذة منى محمد الشَّافعيّ.
وقد اعتنت الرسالة التي اعتمدنا عليها لإعداد هذا الملف على إبراز أهمية التسليم للنصوص الشرعية وتلقيها بالقبول؛ وكيف رسم سلفنا الصالح في ذلك أروع الأمثلة؛ كما كشفت موقف المعادين للنصوص الشرعية وبينت الأسس التي بنت عليها هذه المدرسة منهجها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *