الانعكاسات التربوية والمجتمعية لإحداث البكالوريا الدولية
لعل كل الفاعلين التربويين والسياسيين يعتبرون هذه الخطوة الانفرادية من طرف الوزارة تتناقض كليا مع النصوص القانونية الحالية المنظمة لامتحانات نيل شهادة البكالوريا، والمذكرة 43 في شأن تنظيم الدراسة بالتعليم الثانوي. كما تصادر كل التراكمات والخبرات والمجهودات المبذولة من طرف الفاعلين التربويين بمختلف مواقعهم، وتخل بالميثاق الوطني للتربية والتكوين، وتسقط المدرسة المغربية في نوع من الارتباك والضبابية، والتشكيك في شهاداتها، جراء مبادرات انفرادية وبدون مقدمات ولا سابق تشاور في اتخاذ قرار بهذا الحجم ومن غير دراسة لآثاره وتداعياته الخطيرة على البكالوريا الوطنية، وعلى النظام التعليمي بالبلد.
لأن هذا النوع من البكالوريا سيحظى بالتمييز الإيجابي الذي يجعل الجميع ينفر إليه على حساب البكالوريا الوطنية التي سوف لن يكون لها أية مكانة وحظوظ، مقارنة مع أختها الدولية التي ستفتح لها رحاب واسعة في الجامعات والمعاهد الوطنية والدولية، ويجعل حاملي البكالوريا الفرنسية هم الأجدر بالقبول أو الذين لهم الأولوية، ويتم العبث بمضمون البكالوريا الوطنية؛ مما سيؤدي لا محالة إلى هجرة عنيفة وقسرية لجميع التلاميذ المتفوقين إلى هذه الأقسام.
ولنأخذ العبرة من المحطة التجريبية للموسم الماضي، حيث كان الكل يتهافت من أجل تسجيل أبنائه في المؤسسات التجريبية، وهذا له انعكاس خطير على المنظومة التربوية والسياسة التعليمية في بلدنا، إذ سيعمل على تكريس ارتباط نخبة من مسؤولينا بنموذج التبعية الثقافية واللغوية لفرنسا، وللمركز الفرنكفوني الذي أعلن فشله اللغوي والتعليمي في عقر داره.
كما أن هذه الخطوة تعتبر من القرارات الاستراتيجية المصيرية التي تروم فرنسة التعليم المغربي وتدريجه وعلمنته وتغريبه، بدل العمل على تنزيل السياسة اللغوية الوطنية التي أتى بها الدستور الجديد لسنة 2011 وبكونها تشكل نوعا من التمييز لأبناء الوطن الواحد، ويزيدُ الوضع التعليمي انتكاسا وارتكاسا، بحيثُ يخلق تمايزاً وتفاوتاً بين المدارس العمومية؛ وتحديدا بين تلك التي ستدخل في نسق الباكالوريا الدولية الفرنسية وبين سواها.
الأمر الذي يجعلنا أمام تعليم للعامة، وتعليم للخاصة، وتعليم لخاصة الخاصة؛ مما سيكرس نخبوية المعرفة، وقصرها على فئة منتمية إلى الفضاء الثقافي الفرنسي وتأهيلها، باعتبار أن تكثيف حضور اللغة الفرنسية في المدارس، كلغة أساسية في مناهج التعليم، خير وسيلة لحماية ثقافة ولغة أصبحت متخلفة مقارنة مع لغات دولية علمية تكنولوجية عالمية، مع العلم أن من يتعلم اللغة في المدرسة خليق أن يحافظ عليها فيما بعد، إذ تصاحبه مدى حياته إضافة إلى إفساح المجال لتغول الفرنسية كدعامة لحماية العولمة ونشر قيمها؛ حيث تصبح المؤسسة التربوية خادمة لطموح العلمانيين في نشر مزيد من أفكار الفساد والتبعية والإباحية، والعمل على تأهيل اللوبي الفرانكفوني الذي يتشكل من نخب ثقافية وسياسية واقتصادية لا يهمها سوى الحفاظ على مصالحها الخاصة، الأمر الذي يحول اللغة لديها إلى إيديولوجيا تتجاوز كونها لغة للتدريس -بالمعنى الديداكتيكي- البيداغوجي.
وفي المقابل ستسهم هذه الخطوة في هجرة الأدمغة من المغرب إلى فرنسا العجوز التي أصبحت واعية اليوم بأن لغتها غير قادرة على مسايرة التطور العلمي الحاصل باللغة الإنجليزية، بل حتى باللغة الصينية واللغة الألمانية وبعض اللغات الحية الأخرى.
ومن هنا يمكن أن نتساءل مع كثير من المفكرين والفاعلين الذين عبروا عن آرائهم حول هذا المشروع الذي يعتبر استمرارا وتعميما لقرار سبق أن دشنه الوزير محمد الوفا في بعض الثانويات التجريبية، وربما من باب جس نبض المغاربة حول مدى قبولهم للمد الفرنكفوني في المغرب: فهل هي بكالوريا دولية أم فرنسية؟
وفي إطار التبادل والتعاون هل بإمكان فرنسا أن تتواضع وتعترف بكياننا التربوي وتحدث بكالوريا مغربية عربية دولية في منظومتها التربوية؟
ولماذا كان التراجع عن المؤسسات المرجعية وثانويات التميز التي كانت قد أخذت في استقبال المتميزين من فئات الشعب، وتعويضها بمؤسسات النخبة والأعيان تحت مسمى البكالوريا الدولية؟
وهل اختيار الفرنسية كفيل بتحقيق شهادة لها مصداقيتها دوليا في واقع يعترف بأن فرنسا متأخرة على مستوى التعليم مقارنة بدول الاتحاد الأوربي، وأن نموذجها التعليمي لا يمكن الاقتداء به في بلادنا؟
وما مدى انسجام مضمون برامج ومنهاج البكالوريا الفرنسية مع التوجهات الدستورية في مجال تدبير المسألة اللغوية، وتوجهات الميثاق الوطني للتربية والتكوين والبرنامج الحكومي في هذا المجال؟
وهل سيتم استيراد المناهج والبرامج بضاعة فرنسية أم سيطبق نفس المقرر التعليمي الخاص بتلاميذ البكالوريا الوطنية، مع إلزام الأساتذة باعتماد الترجمة؟
وما هي المعايير الضابطة لعملية الانتقاء لولوج الشعبة الدولية؟
أم أننا سنعيش نفس الوضع الذي سبق أن أثار احتجاجات أولياء التلاميذ عن وجود خروقات وتلاعبات في عملية الانتقاء في بعض المؤسسات التجريبية؟
وهل المشروع يهدف حقيقة إلى إصلاح المنظومة التعليمية وبإمكانه أن يكسبها المصداقية الدولية؟ أم هدفه إعادة إنتاج نفس النخب الفركفونية المتنفذة، ليستمر حزب فرنسا في حكم المغرب، مما يمس بهوية البلد واستقلاله؟
وكيف يمكن الإقناع بأن قطاع التربية الوطنية لا زال تحت السيادة المغربية دولة وحكومة؟
أم أنه يستثمر لصالح عودة تركيز الوجود الفرنكفوني بأي ثمن، وتكريس التبعية الثقافية للنموذج الفرنسي، وهدم ما يبذل من جهود لتثبيت وترصيد قيمة نظام البكالوريا الوطنية، خاصة بعد تصريح وزير سابق بضرورة الاعتماد على الخبرة المغربية وإلغاء عقود مع خبراء أجانب (بيداغوجيا الإدماج ومفكرها كزافيي روجيرز مثلا)؟
ولماذا تتقاعس الوزارة وتتنصل من تعزيز وتقوية مكانة اللغة العربية كلغة تدريس انسجاما مع اختيار التدريس باللغة الوطنية، واستدراك الفجوة المعرفية بالترجمة، كما نلاحظ لدى كثير من الأنظمة المتنامية؟
أم هو مشروع يذر الرماد في العيون بعد تنامي النقاش الذي عرفته الساحة الوطنية حول تدريج التدريس؟
وبالتالي ألا يمكن أن يعتبر هذا المشروع مظهرا من مظاهر اختلالات منظومتنا التعليمية، وغياب رؤية واضحة حول إصلاح المدرسة العمومية، وإدخالها مجددا في غرفة الانتظار لما قد يأتي ولا يأتي؟
إن إحداث البكالوريا الدولية سيأتي على ما تبقى من المنظومة التربوية الوطنية التي يقر الكل بفشل سياستها، ولا يمكن اعتبارها بديلا ومدخلا للإصلاح، لأنها استوردت خارج توافقات ميثاق التربية والتكوين، وتتناقض مع محاولات التعريب والتفكير في تعريب الجامعة، وخارج عملَ مؤسساتٍ دستورية مثل “المجلس الأعلى للتعليم” الذي أنشئ من أجل قضايا التربية والتكوين في البلد، تفكيرا وتداولاً وتقريرا وتدبيرا وتقويما.
إنه مشروع يعبر صراحة عن إرادة متشبثة بالتبعية، وتحاول تطبيع المجتمع مع قيم العولمة، وتعيد من جديد الصراع الأبدي بين قيم العولمة والتغريب والمحافظة على هوية المجتمع وخصوصيته التربوية والقيمية.