البر: خير الدنيا والآخرة، فخير الدنيا ما ييسره الله للعبد من الهدى والنعمة والخيرات، وخير الآخرة الفوز بالنعيم الدائم في الجنة، والبر يراد به خلاف العقوق، يقال: ابن بار بوالديه، أي: غير عاق لهما.
الطفل البار هو طفل ولد فوجد أباه وأمه يبرّان والدَيهما، وجد أباه يقبِّل رأس والده ويده كلما لقيه، ووجد أمه تصنع نفس المعروف مع والديها.
وجد هذا الطفل أباه يخفض صوته عند أبيه، فتعلم أول ما تعلم قول الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء: “وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً” (الإسراء).
ووجد حال أبيه كذلك في كل صلاة يدعو لوالديه رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا، وجد هذا الطفل أباه يذهب بعد وفاتهما لزيارة قبريهما والدعاء لهما، ويأخذه معه إلى المقابر ويقول ادع لجدك يا بني ويأخذ بيده بعد وفاتهما لزيارة أصدقاء والديه برًا بهما.
هذا هو الطفل البار، تربى في مدرسة البر فأصبح بارًا، واستنشق عبير الإحسان فأصبح يفيض إحسانًا.
يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: “الصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به وإليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوِّد الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”.
ويقول ابن القيم رحمه الله: “فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق، فقال: يا أبت إنك عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، وأضعتني وليدًا فأضعتك شيخًا”.
فبر الوالدين سلوك مثله مثل أي سلوك ينقش ويغرس في نفس الطفل الطاهرة منذ نعومة أظفاره، فتكون النتيجة أن يتفاعل الطفل تلقائيًا مع هذا السلوك بسلاسة ويسر، بدون تكلف أو بسبب تخويف أو تهديد، إن هو تعلمه منذ الصغر وتربى عليه فلن يجد بدًا من التعامل به حين يشب ويسن، بل إن هو تعلمه منذ الصغر سيجد بعد ذلك في نفسه الغيظ من كل عاق لوالديه؟ ويجد في نفسه أيضًا الاستنكار لكل موقف أو سلوك فيه عقوق للوالدين سواء كان منه عن غير قصد أو ضعف إيمان، أو كان من غيره بسبب ضياع التربية الأخلاقية والإيمانية.
رأى عمر بن عبد العزيز ولدًا له في يوم عيد، وعليه ثوب خَلِق -أي قديم- فدمعت عيناه فرآه ولدُه، فقال: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟
قال: يا بني أخشى أن ينكسر قلبك إذا رآك الصبيان بهذا الثوب الخلق.
قال: يا أمير المؤمنين إنما ينكسر قلب من أعدمه الله رضاه، أو عق أمه وأباه، وإني لأرجو أن يكون الله تعالى راضيًا عني برضاك.
أما الابن العاق فهذا ولد ولم ير جده ولا جدته أصلاً، لا لأنهم ماتوا ولكن لأن برهم مات في قلب والديه، وإن رآهم ففي المناسبات والأعياد فقط، بل قد يرى أباه يصرخ في وجه جده، ويرفع صوته عليه ويشيح بيديه، هذا الطفل العاق رأى أمه تتأفف من أمها وترفع صوتها عليها، بل ربما تغتابها في غيبتها.
ولد هذا الطفل فوجد أمه وأباه في شجار وعراك غير منقطع، وصراخ وبكاء بين وقت وآخر، بل قد يرى أباه يضرب أمه، وهي تسبه وتلعنه ولا تطيع أمره، فأين تعلم الطفل العقوق إذن؟ إنه لم يتعلمه إلا من وحي هذا البيت الذي عاش وتربى فيه.
ثم بعد ذلك تنهال الشكاوى من الآباء: إن ابني يعقني إن ابني لا يبرني؟
فنقول بكل أسف من تعلم البر لا ينساه، ومن عدمه في أبيه وأمه ولم يتربَّ عليه في صغر فلا يتصور أن يشبَّ عليه في كبره.