استغلال التاريخ من طرف دعاة الإلحاد والعلمنة لإثبات نظرياتهم الفلسفية وتشويه صورة الإسلام المشرقة وهدم عقيدة الولاء والبراء

ازدادت أهمية التاريخ ودراسته في العصر الحديث بل واستُخدِم كأداة مؤثرة لتربية الشعوب وزيادة النعرة القومية فيها، فطفق القوم ينبشون الأرض لشعوبهم ويحيون ما اندرس من وثنيات قديمة، كل ذلك لِيُحِلّوا هذه الروابط الأرضية محل الرابطة الإسلامية الصافية، وليعمقوا النعرة القومية لدى شعوبهم فتنفصل عرى الجسد الواحد وتهدم عقيدة الولاء والبراء، كل عضو يفخر بأنساب هلامية ووثنيات بائدة، مسنوداً بقوى الاحتلال التي أسست البعثات العلمية في العالم الإسلامي وجعلت في معيتها وحدة كشف أثري كما فعل “نابليون” حينما اجتاح مصر، وشغل الناس بنبش الأرض بحثا عن أثار قديمة من فرعونية إلى فينقية إلى مروية.

كما استغل أصحاب المذاهب الفكرية الهدامة التاريخ واستعانوا به يطلبون الغوث لتأييد فلسفة مذاهبهم، وإيجاد الشواهد لها والسند التاريخي؛ فـ”كارل ماركس” مثلاً يرى أن التاريخ البشري كله يقوم على الصراع، وأن وسائل الإنتاج هي التي تتحكم في أخلاقه وقيمه بل حتى دينه، ونتيجة لاستقراء ناقص أو مغرض للتاريخ رأى أن المجتمع البشري ابتدأ بالشيوعية البدائية ثم بسبب اكتشاف وسائل الإنتاج تحول إلى نظام الطبقات القديم -سادة وعبيد-، ثم بفعل تطور جديد في وسائل الإنتاج تحول إلى مرحلة الإقطاع، ثم انتقل منها إلى الرأسمالية -رأسماليين وعمال-، ثم انتقل إلى الشيوعية حيث تنعدم الطبقات.
ومن المفكرين الأوربيين من نظر إلى التاريخ نظرة تقديس وإجلال، وطلب منه تفسير الوجود وتعليل النشأة الإنسانية مثل “داروين” الذي عمد إلى الحفريات الأثرية ليثبت أن الإنسان والقرد يرجعان إلى أصل واحد، الأمر الذي يناقض عقيدة الخلق المستقل للإنسان التي جاءت بها الشرائع، وكل هذا التخبط حدث لأن القوم أنكروا الوحي وحاربوا الله جل في علاه ليستقل الإنسان -حسب زعمهم- بعقله عن غيره.
أما العلمانيون من أبناء جلدنا فقد اعتبروا التاريخ الإسلامي تاريخا دمويا استعماريا عنصريا غير حضاري، وعمدوا إلى تفسيره تفسيراً مادياً، بإسقاط نظريات تفسير التاريخ الغربية العلمانية على أحداثه، وقراءته قراءة انتقائية غير نزيهة ولا موضوعية، لتدعيم الرؤى والأفكار السوداء المسبقة حيال هذا التاريخ، وتجاهل ما فيه من صفحات مضيئة مشرقة، والخلط المتعمد بين الممارسة البشرية والمنهج الإسلامي الرباني، ومحاولة إبراز الحركات الباطنية والأحداث الشاذة النشاز وتضخيمها والإشادة بها، والثناء عليها، على اعتبار أنها حركات التحرر والتقدم والمساواة، والثورة على الظلم مثل: “ثورة الزنج” و”ثورة القرامطة” والخوارج والمعتزلة والجهمية..، وتلميع تلك الحركات الفكرية الشاذة والبعيدة عن الإسلام الحق، وتكريس أنها من الإسلام، بل هي الإسلام نفسه، مثل القول بوحدة الوجود، والاعتزال.. والعمل على تلميع رؤوس هذه الفرق مثل ابن سبأ، وعبيد الله بن ميمون القداح، والحاكم العبيدي، وصاحب الزنج، والحلاج، وابن عربي.. فنشروا تراثهم واعتنوا بتاريخهم وضخموا أدوارهم وأقاموا المراكز والجمعيات لخدمة ذلك، مع تصويرهم لحركاتهم وإبرازها على أنها حركات إصلاحية ومعارضة للفساد، وهذا كله تشويه للتاريخ الإسلامي وتزوير للحقائق وإخفاء للأهداف الحقيقية التي تسعى تلك الفرق وأولئك الأشخاص إلى إحرازها، وهي تبديل مفاهيم الدين الصحيحة بمفاهيم باطنية ووضعية مفادها تشويه الصورة المشرقة للتاريخ الإسلامي لدى ناشئة الأمة وأجيالها المتعاقبة حتى تستنكر لماضيها وتبحث عن القدوة في غير أسلافها.
لذلك لا نستغرب من السعي الحثيث للمستشرقين في إحياء تراث الفرق المنحرفة والتشغيب بها وبرجالها على التاريخ الإسلامي، ومزاحمة سير رجاله وأبطاله ودعاته بسير قادة الفرق الضالة، واتهام المؤرخين المسلمين بالتعصب ضدهم وتحريف تاريخهم، لا نستغرب ذلك لأنه مقتضى عداوتهم لأهل التوحيد والإيمان، فهم يكيدون للمسلمين ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً.
وأخيراً ونحن نتحدث عن التاريخ وتفسيره وأهميته نريد أن نخلص إلى جملة من الحقائق، وهي:
أولاً: إن منهج الإسلام هو أول منهج عرفته الأرض وعُمّرت به، لأن آدم عليه السلام نبي، ويقرر هذه الحقيقة ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: “بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على التوحيد”.
ثانياً: لا بد من معرفة التصور الصحيح عن الإنسان والكون والحياة، لأنها هي إطار حركة التاريخ كما قال السخاوي: “والحاصل أنه فن يبحث فيه عن وقائع الزمان من حيثية التعيين والتوقيت بل عما كان في العالم.. إلى أن يقول: أما موضوعه فالإنسان والزمان”.
ثالثاً: إن الإسلام له من المبادئ والتصورات ما يصلح لأن تكون قواعد ومحددات عامة تحكم دراسة التاريخ بنوعيها: من حيث إثبات الحقائق التاريخية وصحتها بطرق علمية متفق عليها، ومن حيث الحكم على المنجز البشري وتقييمه من حيث الخطأ والصواب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *