حرية الرأي بين الأحكام التكليفية والمبادئ الغربية

بناء على النصوص الواردة في خطورة الرأي والإفصاح عنه؛ والتي تحض على حبس اللسان تكلم العلماء في وظائف اللسان، وقسموا ما يصدر عن الإنسان من آراء إلى أقسام يحسن عرضها ومقارنتها بحرية الرأي في الفكر الغربي:

القسم الأول: ما كان واجباً مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة والدعوة إلى الله تعالى وقول الحق، وأداء الشهادة؛ لقول الله تعالى: {وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} (البقرة:283)؛ وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ} (الطَّلاق:2)، وهذه الواجبات في الإسلام تنقسم في الفكر الغربي إلى قسمين:
الأول: مباح، وذلك في حالة عدم تعارض هذه الواجبات في الرأي مع الحرية الشخصية.
الثاني: محظور، وذلك في حالة تعارض هذه الواجبات في الرأي مع الحرية الشخصية، كأن يكون المستهدف بالدعوة أو النصح أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يريد ذلك، أو كان الشاهد لا يريد أداء الشهادة ولو ضاعت الحقوق، وأطلق المجرمون بسبب ذلك.
والتعارض بين الحرية الشخصية وحرية إبداء الرأي وقع في المجتمع الغربي فحسموا القضية في تشريعاتهم الوضعية لمصلحة الحرية الشخصية؛ ففي فرنسا رفع المشرعون لمحكمة النقض مشكلة التوفيق بين احترام المبادئ الديمقراطية التي تحكم حرية الصحافة وبين احترام الحق في الحياة الخاصة، وتمخض عن ذلك قرار بتعديل المادة (7) من القانون المدني أكد احترام الحق في الحياة الخاصة، في 17 يوليو 1970م…
فإذا كان المساس بالحق في الحياة الخاصة مما يقع تحت طائلة التجريم؛ فإن تحديد النطاق المسموح به لإجراء هذا المساس يتوقف على المفاضلة بين قاعدتين: قاعدة تحقق المصلحة الخاصة للفرد وهي حماية حياته الخاصة، وقاعدة تحقق المصلحة العامة وهي حماية حرية الرأي سواء في صورة حرية الصحافة أو حرية النقد أو حرية البحث العلمي. (الحماية الجنائية لأسرار الأفراد في مواجهة النشر:13-14).
ولذلك فإن القانون الفرنسي يعطي الطبيب الحق في رفض إفشاء سرِّ المريض ولو أذن المريض بإفشائه؛ وذلك باعتبار أن الطبيب بحكم مهنته يملك الحق في السر، والتزامه بالمحافظة عليه مصدره القانون وليس مصدره الاتفاق مع المريض، والائتمان على الأسرار قد يكون نابعاً من القانون، وقد يكون نابعاً من الاتفاق مع صاحب السر. (المصدر السابق: 64-67).
القسم الثاني: المستحب، مثل: المذاكرة في العلم النافع، ولو كان في علوم دنيوية فيها نفع للناس ونحو ذلك. وهذا في الفكر الغربي مباح أيضاً.
القسم الثالث: المحرم، وهو التعبير بكل ما يبغضه الله تعالى، ويبغضه رسوله صلى الله عليه وسلم من الأقوال والآراء، وهو قسمان:
1- ما كان حقاً محضاً لله تعالى كالتعبير بما هو كفر أو وبدعة أو فيه مخالفة لما بعث الله تعالى به رسله عليهم الصلاة والسلام، والدعوة إلى ذلك وتزيينه للناس أو الدفاع عنه وتقوية أهله.
وهذا القسم حرمته في الإسلام شديدة؛ بينما لا يحظر شيء من ذلك في الفكر الغربي، ويعد ذلك من قبيل حرية الرأي؛ ولذلك ينتشر عندهم القول بالإلحاد، وإنكار الربوبية والنبوات، وازدراء الديانات ونقدها، والاستهزاء بالأنبياء والرسل؛ ولا شيء من ذلك يعاقب عليه صاحبه.
وكثير من العلمانيين في بلاد المسلمين لا يدعون إلى حرية الرأي إلا للوصول بها إلى الطعن في المقدسات، وانتهاك الحرمات الشرعية، كما يباح ذلك عند الغربيين، وليس مرادهم فك الاستبداد السياسي أو تخفيفه، بدليل أنهم هم من يكرسون الاستبداد، ويهللون للمستبدين صباح مساء.
2- ما كان حقاً للإنسان، كالسب والشتم والقذف وشهادة الزور ونحو ذلك، وهذا يمكن أن يقال إنه الشيء الوحيد الذي يوافق الفكر الغربي فيه أحكام الشريعة من جهة منعه، وترتيب العقوبة عليه، واستثنائه من حرية الرأي( ).
القسم الرابع: ما يكره إبداؤه من الرأي، وهو ما كان تركه خيراً من إبدائه ولو لم يكن فيه وعيد أو عقوبة، وهذا أيضاً مباح في الفكر الغربي.
القسم الخامس: ما يباح من الرأي والكلام، وهو ما يكون مستوي الطرفين، بمعنى أنه لا للمتكلم ولا عليه، ووقع في ذلك خلاف بين العلماء على قولين مشهورين معلومين.
هذا؛ وإطلاق الرأي في الغرب كان ردة فعل على استبداد الحكومات الغربية والكنائس في القرون الوسطى؛ إذ كانت تكبت أي رأي سواء كان حقاً أم كان باطلاً بمجرد الهوى، وسواء كان فيما يتعلق بأمور الدين أم الدنيا، وكانت تعاقب على إبداء الرأي عقوبات تصل إلى الموت، إلا ما وافق أهواء ملوك أوربا ورهبانها، وهذا ظلم. فكانت ردة الفعل الغربية عقب ثورات الحرية معاكسة فأباحوا الرأي الحق والباطل جميعاً فيما لا يضر الآخرين، فانتقلوا من ظلم إلى ظلم آخر.
أما الإسلام فهو يؤيد الرأي الحق ويدعو إليه، ويكبت الرأي الباطل ولا يسمح به، والرأي الباطل أكثر من الرأي الحق كما تقرر سابقاً، فكان ذم الرأي هو الأصل، ولا يمدح منه إلا بما كان حقاً وهو خلاف الأصل. (انظر: حرية الرأي.. لإبراهيم الحقيل).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *