الاستهداف الخارجي لبلاد المسلمين قديم، منذ الحروب الصليبية إلى اليوم. يتخذ هذا الاستهداف أساليب شتى، منها العسكري والسياسي، ومنها الاقتصادي والاجتماعي، ومنها الثقافي والفكري أيضا. وإن أشد أنواع الاستهداف أن تستهدف الأمم في شارئعها وذاكراتها وعقائدها وخصوصياتها الثقافية، إذ هي التي بها الثبات والصمود رغم التداعي والضعف والهوان وقلة اليد وتراجع النفوذ والوجود الجيوسياسي.
يعيش المسلمون اليوم نوعا من الضعف، ومعه كثير من الفرقة والصراع والافتتان الداخلي، الأمثلة على هذا عديدة ولا يتسع المجال لذكرها. ولما استشرت فيهم هذه الأسباب المادية، رأينا بأم العين كيف انتقلت عدواها لثقافتهم وفكرهم، وكيف أصبحوا خصوما في الدين الواحد، عاجزين عن إيجاد فكرة دينية جامعة تذوب فيها وتمارس تحتها الاختلافات المذهبية والكلامية والسلوكية.
هناك مسؤوليات ذاتية داخلية في الموضوع، إلا أنها تبقى محكوكة بأخرى خارجية تتجلى في هجمتين استعماريتين حديثتين، لكل منهما أساليب اشتغال. والغاية واحدة: عرقلة الوحدة العربية الإسلامية وتجريد المسلمين من أسباب قوتهم المادية والمعنوية. وفيما توسل الاستعمار العسكري القديم استهدافه الثقافي بنموذج قديم في الاستشراق، فقد توسله الاستعمار الجديد باستشراق آخر جديد.
وكلا النموذجين يشتغل على العناصر الثقافية التالية:
-تفكيك الدين الإسلامي وتشكيك الناس في معتقداتهم عن طريق التوجيه الإيديولوجي للمعرفة الحديثة، وما ينتج عن ذلك من فك الارتباط بين المسلمين ودينهم، وبالتالي حرمانهم من نجاعته الإيديولوجية والتاريخية، وكذا نجاعته النفسية والأخلاقية والعقدية.
-استهداف الوحدة اللغوية للأمة الإسلامية، عن طريق تلهيجها، أو إفقارها اقتصاديا وإداريا أمام اللغات الأجنبية، وداخليا أمام اللهجات المحلية. بهذا يسعى الاستعمار إلى فك الارتباط العربي والإسلامي بين أقطار الأمة من جهة أولى، وإضعاف الدول وابتزازها من جهة ثانية، وقطع صلة الوصل الثقافية بين نخبة الأمة وعلمائها ومثقفيها من جهة ثالثة.
-القضاء على الأسرة بمختلف أشكالها الطبيعية، الممتدة الكبرى والنووية الصغرى. وذلك بنشر الشذوذ والسفاح واللواط وتشجيع الجنس الخليع واللامشروع وثقافة العزوف عن الزواج والإيديولوجية النسوية والطلاق، وكل ما من شأنه أن يعيق تكوين الأسر، أو أن يفجرها من داخلها، ولو بخلق مساحات من سوء التفاهم والتواصل بين مكوناتها.
-نشر ثقافة الاستهلاك الفاحش، ومدخلها القيمي والثقافي نقد الأحكام الفقهية والمعايير الدينية والاجتماعية الصلبة، تمهيدا لنوع من السيولة المثيرة للشهوات ومنطق “الالتذاذ بالوجود” بتعبير الطيب بوعزة. ونتيجة هذا المنطق تحويل الإنسان إلى “ماكينة استهلاكية” في يد كبريات الشركات العابرة للقارات ومتعددة الجنسيات، يستهلك تحت سقف الرأسمال المتوحش الذي لم يعد له سقف يوقف تعفنه وقذارته، لا تحت سقف حاجته الطبيعية وباعتبارات أخلاقية وفقهية تعذب سلوكه.
-فصل المسلم عن ذاكرته، بمختلف أنواعها: منها الوطنية وما تقتضيه من نصرة للقضايا الوطنية، ومنها الإسلامية والعربية وما تقتضيه من “اهتمام لأحوال المسلمين”، ومنها الإنسانية وما تقتضيه من اشتياق للشرط الإنساني الأول وما يأباه من تفاوت اجتماعي وفساد أخلاقي وعقدي. جعل المسلم عرضة للاستغلال والاستعمار يأبى هذه الذاكرات الثلاث ويرفضها، ولذلك كانت الغارة الاستعمارية الغربية عليها ومازالت.