حينما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة: “اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم وصححها وبارك لنا في مدّها وصاعها..” (رواه الشيخان)، وحينما رفع بلال صوته بالمدينة بعد أن نزعه الشوق إلى مكة:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بواد وحولي أذخر وجليل
وهل أردنْ يوماً مياه مجنّة *** وهل يبدونْ لي شامة وطفيل؟
لم يكن ذلك إلا تعبيراً عن شعور فطري يعتري الإنسان تجاه منبته وموطنه والدار التي درج فيها، وترعرع في رُباها، وهو شعور يجده كل إنسان في شتى بقاع العالم، ليس فيه ما يُعاب أو يُذَمُّ بل هو من تمام المروءة وكمال الخلق، إلا أن هناك شروطاً لا بدّ من وجودها حتى لا يخرج هذا الشعور الفطري من المدح إلى القدح، وهو أن يكون في حجم طبيعي بسيط، أما إذا تضخم هذا الشعور ونفخ فيه حتى يصل إلى حدود الولاء فإنه يتحول عندئذ إلى خصلة ممقوتة وصفة مذمومة من وجهة النظر الشرعية.
والحقيقة أن هذا الشعور المتضخم تجاه الوطن أو الإقليم وُجِدَ في بلاد الإسلام في العصر الحديث بل إنه صنع وصدر إليها بغرض خبيث، بعد أن كان شعور المسلمين في مختلف أنحاء العالم تجاه بلادهم المختلفة شعور فطري طبيعي مما يُحْمَدُ ويمدح.
مصدر الداء
إن الغرب بالذات صنع كثيراً من المبادئ والعقائد في أرضه ثم صدَّرها عامداً إلى أبناء العالم الإسلامي -والحق أنه لم يكن ليصدرها لو لم تكن عند المسلمين قابلية للاستيراد-.
يقول المستشرق اليهودي “برنارد لويس” معترفاً بالجريمة الغربية: “كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصّة الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة الأوثان منذ دعوة النبي، وكيف انتصر النبي وصحبه وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية لعرب الجاهلية، وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى ولكنها ليست ضد (اللات) و(العزى) وبقية آلهة الجاهلية، بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام اسمها: الدولة والعنصر والقومية، وفي هذه المرة يظهر أن النصر حتى الآن هو حليف.. الأصنام! فإدخال هرطقة القومية والعلمانية أو عبادة الذات الجماعية كان أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط ولكنها مع كل ذلك كانت أقل المظالم ذكراً وإعلاناً” (برنارد لويس، الغرب والشرق الأوسط، تعريب: د نبيل صبحي، ص:93).
وليس من العجيب أن يحرص الغرب على تفتيت وحدة المسلمين، فقد كانت العقبة الكأداء في وجهه إبان استِعَارِ الاستعمار، حيث كانت الجامعة الإسلامية كفيلة بأن تثير حمية الهندي والفارسي والأفغاني والتركي والعربي وكل مسلم وسيلبُّون النداء حين يدعو داعيه.
ومع مرور التاريخ استلم قيادة هذه الأمة الإسلامية خلفاء بني عثمان، وساروا بها في جزء كبير من تاريخهم من نصر إلى نصر، وكانت دولتهم في أول أمرها فتية ثم اشتد عودها ثم شاخت في نهاية أمرها وردم الأعداء التراب على قبرها رافعين شعار القومية التركية بدل الشريعة الإسلامية، ليتردد بعد ذلك في الأرجاء النواح والعويل والجزع والذهول يشارك الجميع أحمد شوقي في مرثيته للخلافة:
عادت أغاني العرس رَجْع نُواح *** ونُعِيتِ بين معالم الأفراحِ
كُفِّنْت في ليل الزفافِ بثوبه *** ودُفِنْت عند تَبَلُّج الإصباحِ
شُيِّعتِ من هَلَعٍ بِعَبْرةِ ضاحكٍ *** في كل ناحيةٍ وسكرةِ صاحِ
ضَجَّتْ عليكِ مآذنٌ ومنابرٌ *** وبَكَتْ عليك ممالكٌ ونُواحِ
الهند والهةٌ ومصرُ حزينةٌ *** تبكي عليك بمدمعٍ سَحَّاحِ
والشامُ تسألُ والعراقُ وفارسُ*** أمَحَا مِنَ الأرضِ الخلافةَ ماحِ؟
عمد الحاقدون على الخلافة الإسلامية إلى نشر المفاهيم والأفكار الغربية في بلاد الإسلام وكانت فكرة تشجيع القوميات أهمها.
هذه الفكرة وُجِدَتْ في بلاد المسلمين أول ما وجدت في دار الخلافة الإسلامية تركيا فقد تسربت إليها من أواسط وشرق أوربا عبر قنوات عديدة منها أن اللاجئين البولنديين والمجريين نقلوا معهم هذا المبدأ بعدما لجأوا إلى تركيا بعد فشل ثورتهم سنة 1848م.
قال “برنارد لويس”: “ولقد عمل “الكونت بورزيسكس” – الذي سمى نفسه بعد ذلك مصطفى جلال الدين باشا وقد نشر كتاباً بعنوان “أتراك الأمس وأتراك اليوم”- على نقل القومية البولندية ووضعها في قالب تركي، وساعده على هذا العمل ما عرضه من أعمال المستشرقين الأوربيين الباحثين في الشؤون التركية، ولقد وصلت نتائج أبحاث هؤلاء إلى المجتمع التركي عبر عدة طرق، وكان لها تأثير هام على الذهنية التركية خصوصاً في تقدير التركي القديم، والاعتقاد بالهوية المميزة والمركز اللائق في التاريخ، ولقد كان الأتراك أكثر من العرب والعجم نسياناً لتاريخهم الماضي فقد كانوا لا يفكرون بأية هوية أخرى غير الهوية الإسلامية، ولكن المستشرقين.. ساعدوا الأتراك على استعادة هويتهم القوية الضائعة وعلى الدعوة إلى حركة قومية جديدة” (المرجع السابق) .
وبمثل هذه الأساليب تعزَّز عند جزء من الأتراك هذا الشعور القومي، وأدى بعد ذلك كواحد من عوامل كثيرة إلى نشوء القومية العربية.
دخول العلمانية دائرة الصراع
لقد كان لغير المسلمين جهد واضح وأثر فعال في ترسيخ الانتماء القومي الذي يستند على العلمنة كإطار مبدئي، ولنستمع إلى ما يقوله إبراهيم اليازجي وهو يستنهض همم العرب ويدعوهم إلى إحياء أمجاد آبائهم ويحثهم على الثورة على الترك:
ودع التنعم بالمطا *** يا والمشارب والملابس
أي النعيم لمن يبيت *** على فراش الذل جالس
ولمن تراه بائساً *** أبداً لذيل الترك بائس
ولمن أزمته بكـ ***ف عداه يُظلم وهو آيس
وله قصيدة بائية أخرى لها نفس الغرض ختمها بقوله:
صبراً هيا أمة الترك التي ظلمت *** دهراً فعما قليل تُرفع الحجبُ
لنطلبنّ بحد السيف مأربنا *** فلن يخيب لنا في جنبه أربُ
فبسبر أحوال القوميين، وتدبر مقالاتهم وأخلاقهم وأعمالهم، عرف أن غرض الكثيرين منهم من الدعوة إلى القومية، أمور أخرى يعرفها من له أدنى بصيرة بالواقع وأحوال المجتمع، ومن تلك الأمور، فصل الدين عن الحياة، وإقصاء أحكام الإسلام عن المجتمع، والاعتياض عنها بقوانين وضعية ملفقة من قوانين شتى، وإطلاق الحرية للنزعات الجنسية والمذاهب الهدامة ولا ريب أن دعوة تفضي إلى هذه الغايات، يرقص لها الاستعمار طرباً، ويساعد على وجودها ورفع مستواها – وإن تظاهر بخلاف ذلك- تغريراً للعرب عن دينهم، وتشجيعاً لهم على الاشتغال بقوميتهم، والدعوة إليها والإعراض عن دينهم.
ومن زعم من دعاة القومية أن الدين من عناصرها، فقد فرض أخطاء على القوميين، وقال عليهم ما لم يقولوا لأن الدين يخالف أسسهم التي بنوا القومية عليها، ويخالف صريح كلامهم ويباين ما يقصدونه من تكتيل العرب، على اختلاف أديانهم تحت راية القومية.
ولهذا تجد من يجعل الدين من عناصر القومية يتناقض في كلامه، فيثبته تارة وينفيه أخرى، وما ذلك إلا أنه لم يقله عن عقيدة وإيمان، وإنما قاله مجاملة لأهل الإسلام، أو عن جهل بحقيقة القومية وهدفها، وهكذا قول من قال: إنها تخدم الإسلام أو تسانده، وكل ذلك بعيد عن الحقيقة والواقع، وإنما الحقيقة أنها تنافس الإسلام وتحاربه في عقر داره، وتطلي ببعض خصائصه ترويجاً لها وتلبيساً أو جهلاً وتقليداً.
وكما هو معروف فقد لعبت القومية العربية بعد ذلك بسنين دوراً أساسياً في ترسيخ مبدأ الفرقة والشتات شَهِدَهُ الجميع، والحقيقة أن هناك ما هو أخطر من القومية على وحدة المسلمين ويتمثل في تيار الإقليمية الوطنية بمعنى حب الوطن والولاء له، وهو مفهوم حديث لم يعرفه المسلمون من قبل، وقد ورد إلى العالم الإسلامي قبل المفهوم القومي، وكان أول من دعا إلى الوطنية بهذا المفهوم رفاعة الطهطاوي، وقد تطورت مثل هذه الفكرة بعد ذلك حتى أصبحت دعوة شعبية.
وعلى كل حال لم تكن هذه الجهود لتؤتي أُكُلها في تجزئة بلاد المسلمين لولا القوة الاستعمارية التي فرضت هذه التجزئة، فكما يقطع الجزار ذبيحته قطعة قطعة فعل الاستعمار بالدولة العثمانية فعل الجزار، فالبلاد الواقعة تحت سيطرة العثمانيين قُسِّمت إلى عشرات الأجزاء ولم يكن ذلك لتعدد المستعمرين، بل كانت العملية واعية ومقصودة هدفها التمزيق إلى أقصى درجة حتى يضمن عدم وحدتها في المستقبل، فالذي حدث “أن المناطق التي وقعت تحت سيطرة الاستعمار الواحد جزئت تجزيئاً، فلبنان انفصل عن سوريا، وكلاهما تحت الانتداب الفرنسي، والأردن فصل عن فلسطين، وفصل العراق على حدة، وكذلك دول الخليج ومصر والسودان وكلها كانت تحت نفوذ الاستعمار البريطاني، الأمر نفسه بالنسبة للمغرب العربي الكبير الذي تجزأ وكان أغلبه تحت السيطرة الفرنسية” (منير شفيق، الإسلام وتحديات الانحطاط المعاصر، بتصرف يسير).