تفكيك العلمانيين للإسلام الإسلام الشعبي.. والإسلام النظري.. والإسلام الشخصي الفردي.. والإسلام الإتني..

الإسلام عند أركون هو: إسلام أرثوذكسي.. كلاسيكي تقليدي.. أقنومي.. إسلام الملاذ.. إسلام التعذر والتعلل.

يحرص الخطاب العلماني على الحديث عن إسلامات متعددة، وذلك ليمزق الإسلام تمزيقاً شديداً، لكي تسهل عملية تصفيته وتذريته في الرياح، ويُحمَّل الإسلام لتحقيق ذلك كل التجليات التاريخية للحياة الاجتماعية والسياسية التي مرت بها وتمر بها الأمة الإسلامية، فتُحُدِّث عن الإسلام الرسمي المرتكز على سلطة الدولة المركزية والذي مارس بنظر العلمانيين دوره في التحريف والتزييف(1)، ويقصد أركون بالإسلام الرسمي أنه “نتاج الخيار السياسي الذي اتخذته الدولة أو النظام الحاكم الذي راح يصفي معارضيه جسدياً”(2)، وهو مصطلح استعاره الخطاب العلماني من نيكلسون كما هو واضح(3).

وهذا الإسلام السلطوي يسميه محمد أركون أحياناً الإسلام الأرثوذكسي(4)، وأحياناً الإسلام الكلاسيكي التقليدي(5)، وأحياناً الإسلام الأقنومي ويعني به أن المسلمين حولوا الإسلام إلى أقنوم ضخم ومضخم، قادر على كل شيء، ويؤثر في كل شيء، دون أن يتأثر بشيء، في حين أنه هو يريد الإسلام المعاصر الذي يخضع للتاريخية مثله مثل أي شيء على وجه الأرض(6)، وأحياناً الإسلام الملاذ، أي إسلام الهروب من مواجهة المشاكل الملحة، إسلام التعذر والتعلل، إسلام الملاذ من الفشل، الإسلام الذي يبدو وحده كتعاليم إلهية قادراً على الحفاظ على التماسك الاجتماعي(7). وليس هو السلامة المعرفية والصحة الأبستمولوجية(8). هذه الإسلامات المتعددة تقابل الإسلام المعاصر كما أشرنا أو الإسلام الدين ولكنه إسلام أركوني جديد(9).
والخـلاصة الأركونية أن “الإسلام فرض نفسه كدين مدعوماً بواسطة نجاح سياسي، إذن فهو حدث تاريخي بشكل كامل”(10)، وتشكل منه إسلام مثالي متعال وفوق تاريخي هو الدين الصحيح بنظر أصحابه طبعاً؛ يُبطل ويلغي كل الإسلامات الأخرى، ولا يمكن هو نفسه أن يُلغى أو يُبطَل(11)، ولذا فإن “إدخال البعد التاريخي في التحليل سوف يضطرنا إلى التفريق بين الإسلام المثالي هذا، وبين الإسلام التاريخي” .(12)
وهكذا فإن أركون يعتبر الإسلام الذي فهمته الأمة عبر تاريخها وتقبله الناس، وآمن به السواد الأعظم من البشر إسلاماً مثالياً خيالياً يختلف عن الإسلام الحقيقي، وليس هناك إسلام حقيقي في المنظور العلماني عموماً.
ولذا فإن أركون يأخذ على عاتقه أن يكشف عن الإسلام بمفهوميه: الإسلام المعاش، وهو غير مطابق وغير صحيح، والإسلام غير المعاش وغير المفهوم وهو الخاضع للتحليل الأركوني طبعاً(13).
ومن الإسلامات العلمانية: الإسلام الشعبي(14) الذي يقوم على الثقافة غير العالمة(15)، لأنه إسلام جمهور المسلمين وعامتهم (16)، وهذا النوع من الإسلام لا يتفق مع الإسلام المحمدي -بنظر الخطاب العلماني- إلا في الاسم، لأن لكل شعب مسلم عاداته وتقاليده وإسلامه الخاص(17)، وفيه مظاهر وثنية(18).
والإسلام النظري وهو النسق الفكري المتشعب والمتشظي الذي أنجزه جمع من المفكرين، ويستمد إمكاناته من الوضعية الاجتماعية المشخصة “الواقع”، وتشخص في بعض المنظومات المهمة مثل الاجتهاد والتأويل والقياس والتفسير والإجماع(19).
والإسلام الشخصي الفردي، ويسميه أركون الإسلام الثالث أو الفردي(20)، وهو قائم على الضمير الشخصي الحر، والممارسة الشخصية للإسلام(21). وتجلى في الممارسات الصوفية التي أفصحت عن نفسها في الطموح إلى العيش في علاقة مع الله عز وجل على نحو يلبي الحاجات الروحية المطلقة، وقد حاول الإجماع الذي هو في حقيقة الأمر إجماع فقهي نخبوي أن يحد من هذه الحرية الفردية(22).
والإسلام الإثني(23) وهو- كما يبدو لي- إسلام الشعوب المختلفة غير العربية الذي امتزج بعناصر من حضاراتها السابقة وعاداتها المختلفة(24)، وهو ما يعبر عنه آخرون بإضافة الإسلام إلى بلدانه، أو مذاهبه المختلفة لتكريس التجزئة، فيقال مثلاً: الإسلام الأندونيسي، والإسلام الباكستاني والإسلام العربي أو الإيراني والإسـلام العـراقي أو الشامي(25). والإسلام السني أو الشيعي(26). والإسلام الأشعري الرجعي المسيطر، بينما الإسلام الاعتزالي التقدمي مهمش(27).
والإسلام التقدمي بنظر جاك بيرك هو الغاية والمطلب لأنه إسلام الديمومة (28)، ومعيار ذلك أن يتخلى الإسلام عن مفاهيمه وتصوراته ومبادئه، ويعتنق الرؤية الغربية لكي يصبح إسلاماً تقدمياً، فالشرط الجوهري للتقدم هو الإسلام أو الاستسلام، ولكن ليس لله عز وجل وإنما للغرب المهمين، أو النظام العالمي -أي الأمريكي- الجديد، للقطب الواحد(29).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة، ص: 163، د.طيب تيزيني 164 وانظر لأركون تاريخية الفكر العربي الإسلامي ص: 146، 202، 206.
(2) الفكر الإسلامي نقد واجتهاد ص:63 د. أركون؛ وانظر: العواصم من قواصم العلمانية ص:211.
(3) النص القرآني؛ طيب تيزيني ص:344.
(4) القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني ص:12لأركون؛ وقضايا في نقد العقل الديني ص:101. حين يطلق أركون لفظ الأرثوذكسية على الإسلام أو الفكر الإسلامي فهو يعني بها “المبادئ والمسلمات والبديهيات المشكلة للاعتقاد الديني التي لا يمكن التمرد عليها دون عقوبة”. العلمنة والدين لأركون.
(5)نافذة على الإسلام لأركون ص: 24-172 ونقد النص لعلي حرب ص:127.
(6) قضايا في نقد العقل الديني لأركون ص:174-175.
(7) تاريخية الفكر العربي الإسلامي ص:115-116لأركون.
(8)الخطاب والتأويل لنصر حامد أبو زيد ص:108.
(9) تاريخية الفكر لأركون ص:115-116.
(10) الفكر الإسلامي قراءة علمية لأركون ص:115.
(11) المصدر السابق ص:115.
(12) المصدر السابق ص:115.
(13) المصدر السابق ص:116.
(14) النص القرآني أمام إشكالية البنية والقراءة لـ طيب تيزيني ص:147 وتاريخية الفكر لأركون ص: 132-180-202 وانظر: له نافذة على الإسلام ص:14، 106 وانظر: عبد المجيد الشرفي “لبنات” ص:77.
(15) المصدر السابق لتيزيني ص:162.
(16) المصدر السابق ص:141.
(17) المصدر السابق ص: 158-159..
(18) “لبنات” لعبد المجيد الشرفي ص:77.
(19) النص القرآني لطيب تيزيني ص:166.
(20) المصدر السابق ص:169
(21) المصدر السابق ص: 174.
(22) المصدر السابق ص:173-174.
(23) المصدر السابق للتيزيني ص:176 وانظر أركون تاريخية الفكر ص:180 حيث يستخدم مصطلح المجموعات الإتنية و الإثنية أو الإتنية: تأتي للدلالة على تصنيف عرقي ثقافي وهي مشتقة من الإثنولوجيا التي تعني علم الأجناس البشرية حيث يدرس هذا العلم القوانين العامة لتطور البشرية.
(24) المصدر السابق 176.
(25) قضايا في نقد العقل الديني لأركون ص:230 ولتلميذه خالد السعيداني: إشكالية القراءة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر نتاج محمد أركون نموذجاً، ص:79.
(26) إشكاليات العقل العربي ص:13 لجورج طرابيشي وأصحاب هذه التفرقة في الأصل هم المستشرقون كما يشير طرابيشي.
(27) النص السلطة الحقيقة ص:14 لنصر حامد أبو زيد.
(28) القرآن وعلم القراءة ص:131 لجاك بيرك.
(29) المصدر السابق هوامش المترجم منذر عياشي ص:131-132.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *