رحمة من الله سبحانه وتفضلا منه وإنقاذا لعباده من مكايد الشيطان ومخططاته، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، فبعد أن تحولت الشرائع السمائية الأخرى بفعل الأحبار والرهبان إلى ديانات محرفة مبدلة يمجها العقل وتأباها الفطر السليمة، جاء البشير النذير صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ورسولاً للثقلين أجمعين مؤيداً بكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
جاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كما وصفه ربه: “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ” (التوبة)، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة، فما من خير إلا ودلَّها عليه، وما من شر إلا حذرها منه، فانقاد لدعوته صلى الله عليه وسلم صفوة مختارة من عباد الله، آمنوا بالله، وأخلصوا دينهم لله، وجاهدوا مع رسول الله حق الجهاد، مضحين في سبيل الله بأموالهم وديارهم وأهليهم، حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، وحطم صلى الله عليه وسلم الأصنام التي كانت حول الكعبة وهو يقول: “وقُلْ جَاءَ الحَقُّ وزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً” (الإسراء).
لقد كان صلى الله عليه وسلم مدركاً أن الشيطان حريص على نقض ما أبرمه من وحدة إسلامية ترجع في حياتها وفي تكييف علاقاتها إلى كتاب ربها وإلى سنة رسولها صلى الله عليه وسلم، وأن مداخل الشيطان على عباد الله مختلفة ومتنوعة، فمن كان إيمانه ضعيفاً انقض عليه بخيله ورجله في التشكيك وطرح الشبهات في أصول الإيمان وفروعه حتى يرتد عن دين الله بالكفر والإلحاد والزندقة.
وإن كان إيمانه قوياً لا مدخل عليه في التشكيك والزعزعة دخل عليه من باب الابتداع ومن باب الغلو في الدين، كما فعل بالأحبار والرهبان من قبل.
لقد حذرنا صلى الله عليه وسلم من الغلو والإفراط في الدين ومجاوزة الحد في المدح والثناء إذا كان ذلك لغير الله، ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله”. (قال العيني في عمدة القاري (16/37) الإطراء: هو المديح بالباطل، تقول: أطريت فلانًا مدحته فأطريت في مدحه، وقيل: الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو” رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه.
ولمسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “هلك المتنطعون، قالها ثلاثاً”.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: “أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله”.
ولهما عنها قالت: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك: “لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد” -يحذر ما صنعوا- ولولا ذلك لأبرِز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً.
ولمسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك”.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال: “أجعلتني لله نداً قل ما شاء الله وحده” رواه النسائي وابن ماجه.
ولأبي داود عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله نهكت الأنفس وجاع العيال وهلكت الأموال فاستسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “سبحان الله سبحان الله، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال: ويحك أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد”.
ولأبي داود بسند جيد عن عبد الله بن الشخير -رضي الله عنه- قال: انطلقت مع وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا.
فقال: “السيد الله -تبارك وتعالى-“.
فقلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً.
فقال: “قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان”.
فهذه الأحاديث -وغيرها كثير- تؤكد لنا حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على سلامة أمته من وساوس الشيطان وخواطره وهمزاته، وتحذرنا من الغلو والابتداع ومجاوزة الحد الذي أهلك الأمم السابقة.