مراجعة ونقد

التعميم، التلفيق، المغالطة، المجازفة والارتجال ممارسات تغلب على الخطاب العلماني، ولا يكف عن تعاطيها في أكثر الأحوال، والمفاهيم التي نحن بصددها من أبرز الأمثلة على ذلك.

الشاطبي والأصوليون قبله:
هل كان الشاطبي مُبدعاً في قضية المقاصد؟ وهل كان متفرداً في ذلك؟
إن قول الجابري بأن ما جاء به الشاطبي كان جديداً كل الجدة -كما سبق وذكرنا- نوع من المجازفة والارتجال، لأن الشاطبي -لاشك- كان له إضافات مهمة في علم المقاصد ولكنه كان يبني على أسس وقواعد أسّسها وقعّدها السلف والأصوليون والعلماء قبله، وهو ما يعتز به الشاطبي نفسه لأن هذا يعني بنظره أنه متبع وليس مبتدعاً، ولذلك فإنه يرى أن ما جاء به “أمر قررته الآيات والأخبار، وشد معاقله السلف الأخيار، ورسم معالمه العلماء الأحبار، وشيّد أركانه أنظار النظار”1 .
ويأتي في طليعة هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم “الذين عرفوا مقاصد الشريعة فحصلوها وأسسوا قواعدها وأصَّلُوها” 2، ثم الأصوليون كالجويني والغزالي اللذَين قسما المصالح إلى خمس ضرورية: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال3 .
ويبدو الغزالي من أكثر الأصوليين الذين يذكرهم الشاطبي في كتابه الموافقات، فقد ذكره أكثر من أربعين مرة في أغلبها موافقاً ومؤيداً ومستدلاً بآرائه، ومحيلاً إلى كتبه. كما استفاد كثيراً من الرازي والعز بن عبد السلام والقرافي4.
ولا بد أيضاً من الإشارة هنا إلى أن علم مقاصد الشريعة كان مستعملاً قبل الشاطبي بحقب طويلة 5 لفظاً ومضموناً عند الحكيم الترمذي أبو عبد الله محمد بن علي، والماتريدي ت:333 هـ وأبو بكر القفال الشاشي ت:365هـ وأبو بكر الأبهري ت: 375هـ والباقلاني ت:403 هـ والجويني، ت:478 هـ، والغزالي ت:505 هـ والرازي ت:606 هـ والآمدي ت:631هـ وابن الحاجب ت:646 هـ والبيضاوي ت:685هـ والإسنوي ت:772هـ وابن السبكي ت:771 هـ وعز الدين بن عبد السلام ت:660هـ وابن تيمية ت:728 هـ6 .
والإمام الجويني هو صاحب الفضل والسبق في التقسيم الثلاثي لمقاصد الشارع إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات كما أنه من ذوي السبق في الإشارة إلى الضروريات الكبرى في الشريعة7 . وقد كشف الباحثون عن أوجه الإبداع والاتباع في نظرية المقاصد الشاطبية بما فيه كفاية فلا نطيل هنا 8.

الشاطبي والشافعي
هل أحدث الشاطبي كما يزعم العلمانيون “قطيعة إبيستمولوجية حقيقية مع طريقة الشافعي والأصوليين الذين جاؤوا من بعده”؟9
في الواقع إن “الشاطبي لا يقوم ولا يقعد ولا يقدم ولا يؤخر إلا بأمثال الجويني والغزالي وابن العربي وابن عبد السلام والقرافي”10 ، وكل العلماء الأصوليين والسلف الصالح كما ذكر الشاطبي نفسه 11، فإذا كان الشافعي قال: “ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها”12 . وقال بأن استنباط الأدلة يكون إما بنص قرآني أو سنة نبوية أو ما فرض الله على خلقه من الاجتهـاد وفي طلبه 13، فإن الشاطبي يقـول: إن القـرآن فيه بيان كل شيء من أمور الدين “والعالم به على التحقيق عالم بجملة الشريعة، ولا يعوزه منها شيء” “وعلى هذا لا بد في كل مسألة يراد تحصيل علمها على أكمل الوجوه أن يُلتفت إلى أصلها في القرآن”.
وقال: “وأيضاً فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها المعنوية وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات”، وقال مستشهداً بقول ابن حزم: “كل أبواب الفقه ليس منها باب إلا وله أصل في الكتاب والسنة نعلمه والحمد لله..”14 .
وظل الشاطبي يلح ويؤكد دائماً على أن العقل تابع للنقل بعكس ما يريد العلمانيون، أو بعكس ما يتجاهلون فيقول: “إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعاً، ويتأخر العقل فيكون تابعاً، فلا يسرح العقل في مجال النظر إلا بقدر ما يسرحه النقل”، “والعقل إنما ينظر من وراء الشرع”15 .
16ويقول في الاعتصام: “فالعقل غير مستقلٍ ألبتة، ولا ينبني على غير أصل، وإنما ينبني على أصل متقدم مسلم على الإطلاق.. ولا أصل مسلّم إلا من طريق الوحي” “لأن العقل إذا لم يكن متبعاً للشرع لم يبق له إلا الهوى والشهوة17” .
ويضيف الشاطبي: “وإذا ثبت هذا وأن الأمر دائر بين الشرع والهوى تزلزلت قاعدة حكم العقل المجرد، فكأن ليس للعقل في هذا الميدان مجال إلا من تحت نظر الهوى فهو إذاً اتباع للهوى بعينه في تشريع الأحكام”18 .

3 – الشاطبي والأزمة البيانية:
هل كان الشاطبي يشعر بأزمة بيانية أصولية تتمثل في الإشكالية التي صاغها الجابري بين اللفظ والمعنى؟ بمعنى آخر: هل تجاوز دلالات الألفاظ العربية بناء على نظريته في المقاصد؟ أو بعبارة أخرى: كيف يمكن الوصول إلى المقاصد عند الشاطبي؟ وكيف تتم معرفتها؟ أبنفس طريقة الأصوليين البيانية أم أن له منهجاً مختلفاً؟
يجيب الشاطبي نفسه فيقول:
“إن هذه الشريعة المباركة عربية لا مدخل فيها للألسن العجمية.. والمقصود هنا أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة لأن الله تعالى يقول {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 20..فمن أراد تفهمه فمن جهة لسان العرب يُفهم ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة”21 .
ومن هنا فإن الشريعة “لا يفهمها حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم، لأنهما سيان في النمط.22.” . “فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولاً وفروعاً… أن لا يتكلم بشيء من ذلك حتى يكون عربياً أو كالعربي”23 .
إن مقارنة هذه النصوص مع أطروحة الجابري تبين أنه ينقضها تماماً!!
————————
(1) الشاطبي: الموافقات 1/26 وانظر د.أحمد الريسوني: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ص:253.
(2) الموافقات 1/23 وانظر : د.الريسوني: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ص:253 .
(3) د.الريسوني نظرية المقاصد ص:254 .
(4) المصدر السابق ص 254-256-257 .
(5) المصدر السابق ص:259 .
(6) د.الريسوني السابق ص 24-46.
(7) المصدر السابق ص:32.
(8) المصدر السابق ص:253 فما بعد.
(9) الجابري: بنية العقل العربي ص:540 وانظر: باروت؛ الاجتهاد:النص الواقع المصلحة ص:107 مناظرة مع د.الريسوني
(10) د. الريسوني؛ الاجتهاد النص الواقع والمصلحة ص:151 .
(11) انظر: الشاطبي؛ الموافقات 1/26 بل إن الشاطبي خلافاً لكثير من العلماء كان لا يأخذ الفقه إلا من كتب الأقدمين ولا يرى لأحدٍ أن ينظر في هذه الكتب المتأخرة. انظر: الموافقات 1/86.
(12) الإمام الشافعي؛ الرسالة ص:20 .
(13) انظر: الرسالة ص 21 ، 22 .
(14) الموافقات 3/33-339 .
(15) الموافقات 1/36-78.
(16) الشاطبي؛ الاعتصام 1/45 . تصحيح الشيخ محمد رشيد رضا.
(17) الشاطبي؛ الاعتصام 1/50 .
(18) الشاطبي؛ الاعتصام 1/52-53.
(19)يوسف:2 .
(20) الشعراء:195.
(21) الشاطبي الموافقات 2/375 .
(22) الموافقات 4/485 وانظر : د.الريسوني؛ نظرية المقاصد ص: 236 .
(23) الشاطبي الاعتصام 2/293.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *