بمجرد طرح موضوع التعليم؛ وما يعرفه هذا القطاع الحساس من اختلالات ومعاطب لا ينكرها متابع؛ فإننا نسمع تراشق الاتهامات بين العديد من الأطراف، كل يوجه اللوم إلى جهة معينة على أنها السبب في هذا الفشل الذريع. والحقيقة أنه من الحيف والظلم أن نجعل هذا الفشل رهين بشخص أو هيئة أو مؤسسة أو فئة معينة، فالمسؤولية مشتركة بين أطراف عدة تسببت في هذا الإخفاق.
فمن أسباب هذا الفشل غياب الاستراتيجيات الواضحة، والخلل في الرؤية مع تلاحق المخططات الاستعجالية الارتجالية التي لا يستقر واحد منها حتى يؤتى بآخر ينقده بل ينقضه؛ مما زاد من تفاقم فشل سياسات التعليم حتى دخل حيز التعتيم والتظليم.
فنجد أن العديد من النظريات والبيداغوجيات في قطاع التعليم مستوردة من فرنسا أو بلجيكا أو كندا… وهي غير نافعة ببلدنا، لأن واقعنا مختلف عن واقع دول غربية أخرى، فلا ضير أن نستفيد من تجارب نافعة؛ لكن يجب الحذر من أن نصير (فئران تجارب)، ويجب الأخذ بعين الاعتبار أن المغرب بلد له انتماء واضح، وهوية دينية وثقافية وفكرية راسخة، وقد كشفت التجارب الماضية أن استيراد المناهج والمقررات الدراسية فشل في إصلاح هذا الصرح المجتمعي الكبير، وخلق نوعا من الازدواجية لدى المتمدرسين، وفاقم الطمع الاقتصادي والسعي إلى علمنة النشء -بالعمل على زرع قيم علمانية دخيلة- من وضع قطاع التربية والتعليم.
وقد كان لوسائل الإعلام -بشتى أشكالها- دور كبير في إفساد قطاع التعليم، حيث أن الإعلام بما أوتي من تطور في الوسائل وتنوع الآليات يلقي بظلاله على المتعلم ويحيط به ويحاصره من مختلف الجهات، ويرسم له طريقاً ومنهجا، وأسلوباً لنشاطه وعلاقاته، بخلاف ما يتعلمه في المؤسسات التعليمية، والإعلام كما هو معلوم قادر على توجيه النشء وتحديد ميولاته ورغباته حيث شاء، ولا يخفى ما يعتري الإعلام من فساد وما يبثه من إفساد كفيل بإفشال كل مخطط إصلاحي يرنو إصلاح قطاع التعليم.
كما أن للأسرة نصيب كبير أيضا في استفحال الوضع، حيث أن كثيرا من العادات والأخلاق والمفاهيم والأفكار يكتسبها ويتشربها الطفل من محيطه الصغير، وهي البيئة الثقافية التي يكتسب منها أساسيات قيمه وهويته وثقافته. والعديد من الآباء يعتقدون أن الواجب عليهم هو البحث لأبنائهم عن مؤسسات تعليمية راقية، واقتناء اللوازم الدراسية والحاجيات التعليمية… والمسؤولية لا تتوقف عند هذا الحد فقط؛ بل لابد من المتابعة الجادة للسير التعليمي والتربوي للأبناء.
فيجد المتابع أن كثيرا من الآباء يتعلل عن تقصيره في متابعة أطفاله بكثرة الانشغالات وواقع الحياة!
ورحمه الله الشاعر إذ قال:
ليس اليتيم من انتهى أبواه هم الحياة وخلفاه ذليلا
ولكن اليتيم من تلقى له أمًّا تخلت وأبا مشغولا
وإضافة إلى دور الأسرة الصغيرة فإن دور المحيط من الجيران والأصدقاء.. على المردود الثقافي والمعرفي للطفل يعد في غاية الأهمية؛ خاصة في البيئات الفقيرة التي يكون الشارع مصدرا معرفيا وثقافيا أساسيا، حيث أن الوقت الذي يقضيه الطفل مع أصدقائه وأبناء حيه أكثر من الوقت الذي يقضيه في بيته، وقد شاعت للأسف الشديد ثقافة اليأس وهجر الدراسة والتزهيد فيها على كثير من أبنائنا.
كما أن بعض الأطر التربوية والتعليمية يتحمل مسؤولية هذا الفشل، ونحن لا نقصد الأساتذة المخلصين، والأطر الصادقين، والمربين العاملين المتفانين في خدمة حقلهم التربوي التعليمي، لكنننا نتحدث عن فئة أخرى من المتكاسلين في أداء العمل الوظيفي، من الذين يعتبرون الفصل باحة للاستراحة وتحسي الشاي ومتابعة الجرائد… وفئة أخرى لا هم لها سوى استخلاص الحوالات، والانشغال بالترقيات والتحويلات والتخطيط للإضرابات، وفئة أخرى ثالثة غارقة في غياهب التغيبات بمبرر ولا مبرر.
كما أن البنية التحتية للعديد من المؤسسات التعليمية لا ترقى إلى درجة سير جيد للعملية التعليمية، خاصة في البوادي والمناطق النائية، فتجد بعض المدارس وانقطاعها عن مستلزمات الحياة من ماء وكهرباء ووسائل النقل والبنية الهشة لحجرات التدريس وغياب السكن اللائق بهيئة التدريس… كل هذا وغيره يضعف السير التربوي ويثنيه ويرديه، ويرجع سلبا على المردودية في هذه المناطق.
فما يعيشه قطاع التعليم من مشاكل متداخلة ومتراكمة لا يمكن الإحاطة به في مقال، لكن تكفي الإشارة إلى أن أطرافا عدة تسببت في هذا الوضع، ومعالجته يجب ألا تتأتى إلا في إطار شمولي وحل تكاملي، يأخذ بعين الاعتبار كل المعطيات، حتى يخرج هذا القطاع الهام والحساس من التيه الذي يتخبط فيه إلى وضوح المخطط والبرنامج والإطار والأهداف، ومن تم جعله قطاعا منتجا وفعالا لا حقلا للمشاكل والإشكالات اللامتناهية.