التغريب وتقويض الهوية

إن المرحلة الثقافية التي تميز العلاقة الحضارية بين الغرب والشرق الإسلامي تتمثل في مرحلة التغريب التي بدأت من غزو السفاح “نابليون” مصر عام 1798 م، وقد استمر التغريب سمة ثقافية بارزة حتى بعد أن اضطر الغرب إلى تقويض خيامه العسكرية والرحيل، أما كيف حدث ذلك؟ فيحدثنا الكاتب الفرنسي “ك. موريل” بسخرية عن تلك الفترة فترة تصفية الاستعمار: “..إذا أرَّخنا للمعارك فقد أخفق الاستعمار، ويكفي أن نؤرخ للعقليات لنتبين أننا إزاء أعظم نجاح في كل العصور، إن أروع ما حققه الاستعمار هو مهزلة تصفية الاستعمار.. لقد انتقل البيض إلى الكواليس، لكنهم لايزالون مخرجي العرض المسرحي..” (نقلاً من كتاب سيرج لاتوش، تغريب العالم).

ويشير المؤرخ الأمريكي “دافيد فرومكين” عن تلك الحقيقة في كتابه “سلام ما بعد سلام” بقوله: “كان أمراً مألوفاً في بدايات القرن العشرين، عندما كان “تشرشل” وضيوفه يمضون الوقت في رحلتهم على متن اليخت “أنشانترس”، أن يفترض المرء أن الشعوب الأوربية ستواصل القيام بدور السيطرة الذي تمارسه في الشؤون العالمية إلى أبعد ما تستطيع البصيرة أن ترى، وكان من الشائع أيضاً الافتراض أن الشعوب الأوربية بعد أن أنجزت معظم ما اعتبره كثيرون رسالة الغرب التاريخية أي تحديد المصير السياسي للشعوب الأخرى على الكرة الأرضية فلا بد أنها متممة هذه الرسالة، وكانت بلدان الشرق الأوسط بارزة بين البلدان التي كان على الأوربيين التعامل معها، إذ هي بين قلة من المناطق المتبقية على كوكبنا دون أن يعاد تكوين شكلها اجتماعياً وثقافياً وسياسياً على صورة أوروبا ومثالها..”.

إذن كان التغريب الثقافي والفكري على صورة أوروبا ومثالها هدف من أهداف الاستعمار العسكري وهيمنته على المجتمعات الإسلامي، وبالفعل تمكنت أوروبا من تحويل اتجاه طلائع المثقفين العرب إلى الفكر والفلسفة الأوربية، لتبدأ حركة الترجمة الثانية، ولكنها هذه المرة حركة مفروضة من الخارج ترى في أوروبا المثال والنموذج، وترى في التراث الإسلامي التأخر والرجعية، وأصبحت تنظر للحضارة والثقافة من منظار غربي لا أثر فيه للتميز الحضاري، بل أن “نسير سيرة الأوربيين، ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يُعاب، وأن نشعر الأوربي بأننا نرى الأشياء كما يراها، ونقوم الأشياء كما يقومها، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها..” (كما أصل لذلك التغريبي طه حسين، أنظر كتابه مستقبل الثقافة في مصر).

الحقيقة أن التغريب يجري على قدم وساق، ويواجه العالم الإسلامي وبقية دول ما يسمى بالعالم الثالث، بشكل لم يسبق له مثيل، خطر تفتيت الهوية الثقافية والاجتماعية، وعلى الرغم من أن مسيرة التغريب قد بدأت منذ وقت طويل، إلا أنها بدأت تأخذ أشكالاً مختلفة أكثر خطورة منذ سقوط الشيوعية، وانفراد القوة الأخرى بالمسرح العالمي، فقد سيطرت المنظومة الليبرالية الرأسمالية على المنظمات الدولية: الأمم المتحدة، صندوق النقد الدولي، اليونسكو، منظمات الإغاثة العالمية، البنك الدولي وأخيراً منظمة التجارة العالمية، وتمكنت عن طريق السيطرة على هذه الهيئات من فرض القوانين الدولية التي تراعي نظامها ومصالحها، كما سيطرت المنظومة الليبرالية الرأسمالية على وسائل الإتصال الحديثة وتمكنت بفضل التقدم التقني الهائل من الوصول بقيمها ومعتقداتها إلى جميع بقاع العالم تقريباً.

إن سوق المعلومات شبه احتكار لاربع وكالات:

– “أسوشيتيد برس” و”ينايتد برس” الولايات المتحدة.

– “رويتر” بريطانيا.

– “فرانس برس” فرنسا .

يتدفق 65% من المعلومات العالمية من الولايات المتحدة، ومن 30 إلى 70% من البث التلفزيوني مستورد من المركز .. وهذا الفيض من المعلومات لا يمكنه إلا أن يشكل رغبات وحاجات المستهلكين، أشكال سلوكهم، عقلياتهم، مناهج تعليمهم، أنماط حياتهم” بالطريقة التي تخدم مصالح الدول الإمبريالية. (سيرج لاتوش، تغريب العالم).

وربما كان من أخطر مظاهر التغريب في العلاقات الدولية أن أصبح الاقتصاد والقوة المالية هي العامل الأساسي في علاقات وتحالفات الدول، فلا قيم ولا ثقافة، ولا مبادىء، وهذا يؤكده المفكر والاقتصادي الفرنسي “جاك أتالي” بقوله : “إن البشرية تدخل في مرحلة من الزمن جديدة تماماً، التاريخ يتسارع، التكتلات تتفكك، “الديمقراطية” تحقق انتصارات جديدة، ممثلون ورهانات جديدة تبرز على المسرح، أمام هذه التحولات التي تبدو في ظاهرها مبعثرة لا يربط فيما بينها أي رابط، يسود لدى المراقبين الحذر من النماذج الموجودة، ويغلب الاستسلام لمزاج القوى العديدة التي تحرك كوكبنا، كما يغلب الميل إلى إعطاء السوق دورًا حاسماً في كل شيء بما في ذلك دور الحكم في مصير الثقافات..” (جاك أتالي، آفاق المستقبل).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *