الوحدة الإسلامية هي المخرج من الضعف والهوان

لا يخفى على كل مسلم بصير ما تعيشه أمة الإسلام من شتات وفرقة، واختلافات أوجبت عداوة وشقاقا، إذ تجاذبت أهلها الأهواء، وتشعبت بهم البدع، وتفرقت بهم السبل، فلا عجب أن تراهم بين خصومة مذهبية، وحزبية فكرية، وتبعية غربية أو شرقية.. والنتيجة يخبر عنها قول المولى عز وجل: “ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”.
وإذا كان المسلمون اليوم يلتمسون الخروج من هذا المأزق فلا سبيل إلاّ بالاعتصام بحبل الله المتين وصراطه المستقيم، مجتمعين غير متفرقين، متعاضدين غير مختلفين، فيكون ذلك بتوحيد الهدف والغاية مع حسن النية وسلامة القصد قال ابن القيم رحمه الله: “ووقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت إرادتهم وأفهامهم وقوى إدراكهم، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه، وإلا فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباين والتحزب، وكل من المختلفين قصده طاعة الله ورسوله لم يضر ذلك الاختلاف، فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية ولكن إذا كان الأصل واحدا والغاية المطلوبة واحدة والطريق المسلوكة واحدة لم يكد يقع اختلاف وإن وقع كان اختلافا لا يضر كما تقدم من اختلاف الصحابة، فإن الأصل الذي بنوا عليه واحد وهو كتاب الله وسنة رسوله والقصد واحد وهو طاعة الله ورسوله والطريق واحد وهو النظر في أدلة القرآن والسنة وتقديمها على كل قول ورأي وقياس وذوق وسياسة” الصواعق المرسلة 2/519.
إنّ كلمتنا إن جُمعت على غير هذا، فهي كلمةٌ ضائعة ممزقة، ولن تكون لأمتنا شوكة، هذا أمر مُسلّم وإن تجاهله البعض، عرفه العدو قبل الصديق.. يقول وزير المستعمرات البريطانية في وقته “أوريسي جو”: “إن سياستنا تهدف دائمًا وأبدًا إلى منع الوحدة الإسلامية أو التضامن الإسلامي، ويجب أن تبقى هذه السياسة كذلك” وقال: “إننا في دول إسلامية شجعنا -وكنا على صواب- نمو القوميات المحلية، فهي أقل خطرًا من الوحدة الإسلامية”.. وقال المؤرخ “أرنولد توينبي”: “إن الوحدة الإسلامية نائمة، لكن يجب أن نضع في حسباننا أن النائم قد يستيقظ”..
فلا عزة ولا تمكين لنا إلا بالإسلام كما قال عمر رضي الله عنه: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله”، وهذا أمر مقرر متفق عليه في الإسلام لا خلاف فيه، والمقصود منها تذكيرٌ للمسلم، وأما من تبنى فكر خصوم الإسلام فَسَقَوه من آرائهم حتى ثمل، وملأوا عقله بأفكارهم حتى ثقل، وضلعوه بأصولهم حتى أسلم لهم القياد، فقد لا يدرك إلا الحبر والورق.
لقد وجه الله تعالى عباده إلى سبيل الوحدة، فقال سبحانه وتعالى: “وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ”، فالسبيل إذن هو الاعتصام بحبل الله المتين، والتمركز حول العقيدة الإسلامية، واعتبار نصوص الوحيين هما المرجعية في تحديد الغايات والمنطلق والمسيرة (آليات العمل)، للوصول إلى الأهداف المرسومة.
إن هذه الأمة لن تجتمع حتى تتوحد نظرتها العقدية، وفق فهم السلف الصالح، وتختط منهجاً يتفق ونهج النبي صلى الله عليه وسلم، مع مراعاة أوجه التغيير ومواكبة تطورات الزمان والمكان، قال تعالى: “إنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ” (الأنبياء).
فبقدر ما نؤمن بحاجة الأمة إلى التغيير الفاعل في واقعها للخروج من أزمتها الراهنة، بقدر ما نؤمن بأن العامل الأمثل للتغيير هو (تغيير الذات)، “إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ” (الرعد)، ومن مقتضيات تغيير الذات: التعالي عن معاني الحقد والتحاسد والبغض والكره للمسلمين، وتخلية النفس من شوائب الازدراء والسخرية لأفراد المجتمع المسلم. وبالمقابل فإنه ينبغي تحلية النفس بالمعاني النبيلة، والمعاني السامية: بمعاني الحب والود والعطف والشعور بالرحمة والرأفة نحو المسلمين، وتبني قضاياهم وهمومهم، والسعي على ضعافهم ببذل المعروف والمال، والصبر على إيذائهم والدعاء وبذل النصيحة لهم، فإن هذا بمجموعه يولد مجتمعاً مترابطاً متماسكاً متآخياً، وهي الحالة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بحالة الجسد الواحد في قوله صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (مسلم 2856).
وحينما شرع الله سبحانه وتعالى الوحدة ودعا إليها، ووجه المسلمين نحوها، شرع ما يؤدي إلى تحقيق هذه الوحدة ويعين عليها، ويعمل على صيانتها، فشرع صلاة الجماعة التي يصلي فيها المسلمون ضمن حركات متناسقة تنساب كأنها أمواج البحر، لا يشوبها تضارب أو تضاد، وبألفاظ واحدة، خلف إمام واحد، متجهين إلى قبلة واحدة، يدعون إلها واحداً، وشرع الزكاة التي تمثل أكبر مظاهر التكافل الاجتماعي في الإسلام، والتي تظهر فيه معاني التراحم والتعاطف، وشرع الصيام الذي تظهر فيه معاني الشعور نحو الآخرين، والحج الذي يمثل بحق المؤتمر العالمي الإسلامي السنوي، الذي يظهر فيه المسلمون بمظهر واحد يلبُّون نداء رب واحد.
إن للفرقة دوراً كبيراً في تعطيل مسيرة الأمة نحو غاياتها المثلى، وأهدافها النبيلة، لتحقيق كيانها الحضاري للقيام بأمر الله، وتبليغ دينه، وتنزيل منهجه في أرض الواقع لإسعاد البشرية في الدنيا والآخرة.
فالفرقة تبدد الطاقات وتنأى بها عن استثمارها في مساربها الصحيحة، وتثني النفس عن عزيمتها وهمتها، وتجعل نظرة الأمة قاصرة، بعيدة عن التطلع نحو آفاقها ومراميها، منشغلة بوضعها الداخلي، دون الانتباه إلى ما يحوم حولها ويحاك ضدها من الدسائس والمؤامرات التي يقوم بها أعداء هذه الأمة، ومن هنا فقد حذر القرآن الكريم المسلمين من الفرقة، قال تعالى: “وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” (الأنفال).
وبما أن المثال الواقعي والمترجم عملياً في أرضية الواقع، هو أبلغ في التمثل والتأسي والإقتداء والاعتبار، ركز القرآن الكريم على هذا الجانب الذي يمثل الجانب القصصي والتاريخي من الكتاب العزيز، فضرب القرآن لنا أمثلة واقعية من واقع التاريخ الإنساني من واقع أهل الكتاب ليبين لنا دور الفرقة وخلخلة الصف في زوال الأمم وانهيارها وذهابها، قال تعالى: “وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ (آل عمران)، ويقول: “إنَّ الَذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ” (الأنعام) .
وإن نظرة إلى واقع المجتمعات الغربية، بما فيها أمريكا وأوربا، يرى الفاحص المدقق أنها مجتمعات آيلة إلى السقوط وفق هذه السنة الإلهية، فهي مجتمعات مريضة من داخلها وإن استحسن بعض الناس ظاهرها، مجتمعات منهارة، متفككة خربة، خاصة على الصعيد الاجتماعي.
وحينما تريد الأمة الإسلامية أن تقف على قدميها فلابد أن تكون فصائلها متحالفة مترابطة، والوحدة التي نريدها هي وحدة الدول، وحدة الطاقات، فالبعض يملك القوة العددية والبعض يملك الكوادر والطرف الثالث يملك المال وآخر يملك طاقة أخرى وهكذا يمكن أن تتكامل هذه الطاقات وتتعاون في سبيل هدفنا الواحد، ولن يتأتى ذلك إلا بالرجوع إلى التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فطاعة الله ورسوله شرط في عدم التنازع والفرقة لقوله تعالى: “وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *