الأسماء والصفات .. وقصة الانحراف

كان السلف والصحابة يتلقون الخبر عن أسماء الله وصفاته بشكل مباشر وبعيد عن خواطر التشبيه، مما كان يزرع في نفوسهم تعظيم الله تعالى وحبه ومعرفته معرفة تثمر أزكى الأعمال وأعظمها، أعمال وصلت إلى درجة بذل النفس والمال في سبيل الله تعالى:

عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: “أي آية في كتاب الله أعظم”؟ قال: الله ورسوله أعلم. فرددها مرارًا ثم قال أبي: آية الكرسي. قال: “لِيَهْنك العلم أبا المنذر” [رواه مسلم].
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ(قل هو الله أحدٌ) فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سلوه لأي شيءٍ صنعت ذلك؟ فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أخبروه أن الله يحبه” [متفق عليه].
وعن أبي رزين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره” قال” قلت: يا رسول الله أو يضحك الرب؟ قال: “نعم” قلت: “لن نعدم من رب يضحك خيرا” [السلسلة الصحيحة].
فهذا منهج الصحابة والسلف في تلقي الصفات الإلهية؛ إيمان وتعظيم وحب وتفاعل، ولم يثبت أن أحدهم استلزم من إثباتها تشبيها ولا تكييفا.
ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوا هذا المنهاج واتبعوا مناهج الفلاسفة وطرق الكلاميين..
وأول من خاض في هذا الباب؛ رجل اسمه جهم بن صفوان السمرقندي (ت.128هـ) متأثرا بشبه بعض اليهود التي كانوا يقذفونها في أسماع ضعاف العلم والإيمان، ومنهم هذا الرجل الذي ترك الصلاة أربعين يوما شاكا في وجود الله تعالى متأثرا بشبه الدهريين الذين قالوا: لا نثبت إلا ما ثبت بالحواس الخمس، فلا موجود عندهم إلا ما ثبت بأحد تلك الحواس الخمس، وهو مذهب سخيف لأنه يلزم منه نفي الروح التي هي قوام الحياة، ومع ذلك لا تدرك بالحس، كما فيه إلغاء كل ما يثبته العقل.
فانحرف الرجل متأثرا بتلكم الشبهات الفلسفية، وأدى به ذلك إلى نفي الصفات والأسماء، وكان رأسا لطائفة اسمها “الجهمية”.
وقد انبرى لمواجهة هذه الطائفة طائفة أخرى اسمها المعتزلة، وأصلها رجل اسمه واصل بن عطاء (ت.131) اعتزل العلماء وسفه عقولهم، وأراد أن يقرر مسائل المعتقد انطلاقا من دلالة العقل باعتباره الوسيلة القوية لمواجهة الفلاسفة والجهمية، إلا أنه وقع في انحرافات خطيرة وتبعه آخرون؛ على رأسهم: عمرو بن عبيد (ت.143).
فانتهى الأمر إلى تبلور طائفة المعتزلة التي قال فيها شيخ الإسلام ابن تيمية: “لا هم للدين نصروا ولا هم للفلاسفة كسروا”.
وقد خرج من رحم هذه الطائفة أحد جهابذة العلماء وأذكياء العالم؛ وهو الإمام أبو الحسن الأشعري (ت:324) الذي تشبع بقواعد المعتزلة وقررها ونافح عنها مدة أربعين سنة، ثم نبذ مذهبهم واهتدى بنظره وبالتأمل في مذهب ابن كلاب؛ إلى مذهب جديد يحاول المزج بين دلالات نصوص الوحي ودلالات الفكر الفلسفي ممثلا في قواعد المعتزلة، وألف كتابه “اللمع” فأبطل فيه كثيرا من قواعد المعتزلة.
.. وفي هذا الوقت كان العلماء السلفيون يقاومون خط الانحراف هذا؛ وأشهرهم الإمامان مالك بن أنس (ت:179) وأحمد ابن حنبل (ت:241)؛ حيث وقفا في وجه الفكر الفلسفي وما تفرع عنه من تجهم واعتزال، وكانت لمواقفهما آثار عظيمة؛ كان منها رجوع الإمام الأشعري من مذهب ابن كلاب إلى عقيدة السلف كما قرر ذلك في مصنفاته الأربعة: “الإبانة عن أصول الديانة”، و”رسالة إلى أهل الثغر”، و”مقالات الإسلاميين”؛ الذي ذكر فيه عقائد الفرق الثنتين والسبعين، كما بين عقيدة الفرقة الناجية، انطلاقا من الحديث المعروف في افتراق الأمة، وله أيضا كتاب “الإيمان” وقد أجاب فيه عن سؤال وَرَدَ إليه وهو: هل الإيمان مخلوق أو لا؟ فأجاب بأن هذا السؤال بدعة وقرر فيه العقيدة كما جاءت في القرآن والسنة وكما بينها الأئمة ومنهم الإمام أحمد رحمه الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *