تمنى النصارى أن يحولوا القارة الإفريقية كاملةً إلى حظيرة لدينهم المحرف، ولم يكتفوا بالأماني فقط، بل سعوا لتحقيق ذلك بكل ما أوتوا من أسباب وقوة، وقد نجحوا في تحقيق مرادهم نجاحاً ضئيلاً في عدد محدود من دول القارة، وهذا ما يعد إخفاقا بالنسبة لهم، هذا الإخفاق ولّد عندهم حقداً زائداً ومضاعفاً على الإسلام في تلك القارة، إذ الإسلام بالنسبة لهم يعد العدو التاريخي، فكان لا بد من بث هذا الحقد بشكلٍ أكثر عمليةً، وفي القارة نفسها، وفي دولة مسلمة كذلك.
كانت تلك الدولة التي تنفس فيها النصارى بصدور ملؤها الحقد.. هي السودان، فقد وجد النصارى في هذا البلد أسباباً عديدةً تدعوهم لمحاولة الفتك به، وتحويله حسب أمانيهم إلى دولة نصرانية، أو -على الأقل- تحويل جزء منه.
وقد كانت عناصر: المساحة الكبيرة، والتنوع القبلي، والعرقي، واللغوي، عوامل مساعدةً للحملة الصليبية على السودان.
البابا يفتتح الحملة الصليبية
في مطلع العام 1993م هددت الولايات المتحدة بإدراج اسم السودان في قائمة الدول التي ترعى الإرهاب، وذلك بعد تقرير مساعد وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية “هيرمان كوهين”، فكانت تلك مقدمةً لفتح باب من الشر للهجمات الصليبية.
وقام بابا الفاتيكان بزيارة رسمية للسودان في فبراير من العام نفسه، واستُقبل استقبالاً حاراً، وكانت عبارات الاستقبال مليئةً بالحفاوة والمديح الزائد.
هذا الترحيب الحار قابله صلف نصراني شديد، ووضوح في تحديد مهام الزيارة وأهدافها، فلم يوارب ولم يُوَرِّ، بل أعلنها بكل صراحة حين قال: “إن رياح التغيير تهب على إفريقيا وتتطلب احترام حقوق الإنسان، لقد كانت لي رغبة ملحة للمجيء إلى السودان، وبصفتي خليفة القديس بطرس الذي جعله السيد المسيح رأساً على كنيسته، فمن اللازم عليَّ أن أشجع وأثبِّت الإيمان في إخوتي وأخواتي أينما كانوا، ولا سيما عندما يقتضي الإيمان شجاعةً كبيرةً وقوةً للصمود، وعندما يكون الشعب ضعيفاً وفقيراً ولا حامي له، يجب أن أرفع صوتي لأتكلم باسمه”.
وفي تلك الزيارة استمع البابا إلى تحريض كبير من رئيس الأساقفة “غبريال زبير واكو” ليدلي بدلوه في تأجيج أوار الحملة الجديدة: “إننا لا نريد أن نتعمق في المتاعب والمشاق التي مررنا بها خلال السنوات الأخيرة، فهؤلاء الرجال والنساء، وخاصةً الكهنة والرهبان والراهبات والمبشرين، قد تحملوا حقيقة حرارة اليوم، ويقفون هنا في احتياج للتشجيع، لقد مرت فترة شعرنا فيها بانعدام الأمل، وفقدان القدرة، إن هذا البلد لا يعرف المسيح جيداً. هؤلاء الكهنة والرهبان والراهبات قد حملوا صليبهم مع المسيح بشجاعة لا متناهية وثبات عجيب، وإن المبشرين يستحقون تقديراً خاصاً منا، إنهم الصفوف الأمامية من الرجال والنساء للإنجيل، إنهم الناس الذين يجهزون الأرض للزرع”.
كانت زيارة “البابا” الباب الذي دخل السودان من خلاله في دوامة العقوبات المتتالية، فبعد هذه الزيارة بأشهر قليلة وفي يوليو 1993م اجتمع البابا مع البعثات التنصيرية العاملة في السودان لمناقشة الأوضاع هناك، وما ينبغي عمله لتحقيق الهدف. وبعد ذلك زار البابا واشنطن وقابل الرئيس الأمريكي الأسبق “بيل كلينتون”، وأطلعه على أحداث زيارته للسودان، وما اتفق عليه في الاجتماع الذي تلاها، لم تطل المدة التي اتخذت فيها الإدارة الأمريكية مرئياتها حول الوضع في السودان، ففي 19/8/1993م أدرجت الولايات المتحدة السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وخطورة هذا القرار تكمن في قطع الولايات المتحدة للمساعدات العسكرية عن السودان وحثها المؤسسات الدولية والمالية على عدم تمويل السودان، في الوقت الذي تدفقت فيه المساعدات على “جون قرنق” في الجنوب ليقيم دولتهم النصرانية.
إحاطة السودان بسياج حديدي
وفي ذلك العام أدانت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة النظام الحاكم في السودان بممارسة عمليات الإعدام والتعذيب، وبارتكاب مجازر وقتل عشوائي واختطاف الأطفال لاستخدامهم عبيداً أو جنوداً، وأدى ذلك إلى صدور قرار جديد بإدانة السودان في 14/12/1993م، ولم تشأ منظمة العفو أن يفوتها شرف الاشتراك في الحملة الصليبية، فوجهت بدورها اتهامات إلى السودان بقتل 300 ألف من المدنيين العزل في مدينة “جوبا”، كما سارت منظمة العفو الدولية في الاتجاه ذاته حينما أصدرت تقريراً في السنة نفسها اتهمت فيه الحكومة السودانية باستعباد الأشخاص وبيعهم، ثم جاء دور صندوق النقد الدولي، حيث رفض منح السودان أية قروض، وذلك تنفيذاً للتهديدات الأمريكية، كما قام الصندوق بتجريد السودان من حق التصويت في اجتماعاته.
وهكذا نرى الحلقات بدأت في التجمع لإنشاء سياج حديدي كبير على السودان لإضعافه داخلياً، في الوقت الذي ينشغل فيه بصد هذه المؤامرة الدولية الصليبية، وهو ما سمح لحركة التمرد بالانتفاش، والحركة التنصيرية بالانتشار، ثم جاء دور الدولة المحتلة القديمة للسودان -بريطانيا- في نفث سمومها لتأجيج نار الحرب، فقامت باستقبال المعارضة السودانية في البرلمان البريطاني فيما عُد سابقةً دوليةً خطيرةً، كما أقدمت الدول الغربية على حملة نصرانية تدعو إلى التدخل الدولي في السودان وإقامة مناطق آمنة فيه على غرار ما حدث في العراق، وقد قادت هذه الحملة في بدايتها الكنائس الكاثوليكية الأوروبية والكنائس الكاثوليكية الإفريقية، ثم تولت الدول بعد ذلك هذه الحملة بنفسها، فأصدرت المجموعة الأوروبية و”الكونجرس” الأمريكي ومجلس اللوردات البريطاني بياناً يدعو إلى التدخل الدولي في جنوب السودان، لوقف ما أسمته بعمليات التطهير العرقي ضد المسيحيين في جنوب السودان، ثم أعلنت الولايات المتحدة أنها تبحث إقامة مناطق آمنة لحماية الهاربين من الحرب الأهلية والمجاعة، وتوسعت الدعوة لإقامة مناطق آمنة حول العاصمة نفسها، ومناطق في الشمال.
وفي اتجاه آخر -ولزيادة جرعة الإلهاء والاستغراق في الدوامة المجهدة- تم جر السودان إلى مشاكل حدودية وسياسية مع الجيران، فأثيرت الخلافات مع مصر وأوغندا وإريتريا، وهكذا فتح باب آخر من الشر على ذلك البلد، ثم تلا ذلك الضربة العسكرية الأمريكية المشهورة لمصنع الشفاء للأدوية.
وإن كان الشعب السوداني قد صمد بفضل من الله أمام هذه الحملة الصليبية، إلا أن الحكومة قد قدمت تنازلات كبيرةً في الواقع تخدم -من حيث تدري أو لا تدري- الهدف النصراني، حيث أعلنت أنها لن تطبق الشريعة الإسلامية في مناطق الجنوب، وأن الدستور السوداني لن يذكر أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وهذا بلا شك تنازل خطير له دلالاته في الواقع. وهكذا نرى كيف هي الحملة على هذا البلد المسلم الذي غدا كوحيدة الغنم وسط قطيع من الذئاب.
هذا كلّه ناهيك عن حجم الوجود النصراني في السودان، من كنائس ومدارس ومنظمات ومراكز اجتماعية وصحية وثقافية، كلها تعمل لتفتيت السودان من داخله متواصلين مع الساعين لهدمه من خارجه.. فلك الله يا شعب السودان المسلم!