أصبح القارئ والمستمع من عامة الناس وبعض المتعلمين يفهمون مصطلح السلفية والسلفي أنه كل ذي لحية طويلة ولباس حاسر فوق الكعبين وقمصان ونعال، وما يتبع ذلك من سلوك يحيل إلى ضوابط توسم بالمشرقية، تعامل بالقبول أو الرفض حسب القناعات التي لا تضبط إلا بضابط الأهواء والتبعية للغرب أو الشرق، مما لا أصل له في الدين أو مصادم لأبسط قواعده وضوابطه، تارة بدعوى التسامح والتعايش وأخرى بالاستناد إلى مطلب الحفاظ على الهوية وما جرى به العمل، وكأن العمل لم يجري بغير ذلك.
ونحن في هذه المقالة سنبين أن السلفية بالمغرب ذات جذور وامتدادات جعلت الغزاة الصليبيين قديما والاستعمار حديثا تتكسر نصاله على صخورها لرسوخة أقدامها وتغلغلها في المجتمع حتى صارت لحمته وسداه، تتمفصل مع حراكه الاجتماعي، وتكون أداة تماسكه وتوحده وقوة تدافعه، لذلك لا تعدم روادا ومرشدين وهداة ومجددين.
لقد كانت السلفية على مر التاريخ تطبق في المجتمع كلا أو بعضا، وكان العلماء والفقهاء والسلاطين يتصدون لذلك كلما بدأت الخرافات تشيع في سلوك الناس جماعات أو فرادى، رائدهم في ذلك كتاب الله وسنة رسوله وما سار عليه السلف الصالح من التابعين والأئمة.
فكان الناس يستجيبون لما يحييهم ويعيدهم إلى جادة الصواب، الأمر الذي يفسر استمرار الدولة بالمغرب رغم الهجمات الصليبية والنعرات الطائفية والاحتلالات الاستعمارية.
والمتصفح لكتب التاريخ والنوازل والفقه يجد للسلفيين بالمغرب القدح المعلى في إقامة المعروف وإنكار المنكر.
جاء في معيار الونشريسي الجزء الثاني تصدي العلماء للنهي عن بدع ومنكرات ينكرها سلفيو اليوم، ويُرد عليهم بأنها أعراف تعتبر مناهضتها مناهضة لسياسة البلاد:
– بدعة اتخاذ طعام معلوم في ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم أو عاشوراء (ابن الحاج).
– تقديم الجهال على العلماء في المناصب الشرعية.
– بدعة قراءة القرآن بالألحان المطربة والترجيع المشبه بالغناء الملهي عن مواعظ القرآن .
– تبرج النساء بأنواع الزينة وخروجهن إلى الطرقات.
– اتخاذ الملاهي وأنواع الغناء صناعة وحرفة.
– تعرض الفساق وأهل الشر لحريم المسلمين باتخاذهم المجالس على قوارع الطريق لإذاية المارين إما بالقول، أو بالتعريض للنساء، والكشف عن عوراتهن والمخالسة بالكلام، وما أشبه ذلك من وجوه المنكر.
قال أبو القاسم ابن خجو: “من البدع المحرمة تزيين الرجال بزينة النساء والتزيي بزيهن”.
قال الإمام ابن يامون:
وليتجنب ما شاع في الولائم صاح من المنكر والجرائم
كجمعه الرجال والنساء محرم شرعا وطبعا جاء
قد سئل الإمام الحفار عما اعتاده الناس في عقد النكاح من حضور الملاهي ويقول أهل الزوجة للزوج لا بُدّ لك من العرس، وصفته: يحضر المزامير، ويجتمع الفساق على الخمر ويشربونها ومعهم النساء الزواني مختلطات فيصعب ذلك عليه، فإن سأل بعض الفقهاء يقول له هذه عادة قد جرت لابد لك منها…، فأجاب: أما الملاهي فإن كانت بمحرم فهي حرام، أما ما ذكرته في السؤال من تلك الهيئة الشنيعة فهذا مما لا يسأل، لو خسف بهذا الموضع الذي يصنع فيه هذا المنكر لكان خليقا بذلك، لا سيما إذا تكرر في ذلك واعتيد، فذلك استدعاء لسخط الله ووقوع البلاء بالقطر.
وأما قول بعض الفقهاء هذه عادة فهؤلاء فساق وأعداء دين الله وشريعته، لا فقهاء”.
ولم يقف سلفيو المغرب عند إحياء السنة وإماتة البدعة وتعليم الناس أمور دينهم، وإرشادهم لسلوك مسلك الرشاد في دينهم، وإنما ساهموا بالذب عن حياض المسلمين وحرماتهم ودورهم وممتلكاتهم، بمشاركة السلاطين في الجهاد وحماية الثغور مما عرضهم للأسر، وكتب التاريخ شاهدة على ذلك، ولم يقف دورهم عند ما هو تقليدي، بل قاموا في وجه الاستعمار المعاصر بإنشاء المدارس وتحويل “مسايدهم” وكتاتيبهم إلى مؤسسات تعليمية رائدة، وفي ذلك يقول جون جيمس ديمس صاحب كتاب “حركة المدارس الحرة بالمغرب”:
“حاول السلفيون منذ العشرينيات بث روح تساؤلية ونقدية في تجربة التعليم القائمة على التلقي أساسا، فأدخل المصلحون في المدارس الحرة التي قاموا بتأسيسها أصنافا من المواد الحديثة والمشوقة، وكانوا يناقشون الأفكار السلفية مع التلاميذ الأكبر سنا”.
ومن هؤلاء: مولاي مصطفى العلوي، والفقيه غازي، ومحمد الخطيب، والفقيه الكريني، وامحمد بلقاضي، وأحمد عواد، والمهدي الفاسي، ومحمد اليمني الناصري، وعبد الرحمان النتيفي، وفضول أكومي، وإبراهيم الألفي، وعبد السلام الوزاني، والطيب الشرقاوي..
زيادة على مشاهير من أمثال المكي الناصري وأضرابه، بحيث لا يذكر تاريخ المغرب إلا ويذكر السلفيون في طليعة الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، المبينين حدود الله القائمين على لمِّ شعث الأمة ورص صفوفها في السراء والضراء.
والخلاصة أنه إذا كان السكوت عن الحق مدعاة لضياعه، فإن الإهمال الذي طال الحركة السلفية بالمغرب مرده إلى أن المؤرخين والباحثين يعتبرون أن السلفية مرادفة للإسلام بالنسبة للمغاربة كما كان الإسلام مرادفا للمغربي، وكما كان المغرب يعتبر أن من جاء من المشرق كله مأخوذ من الكتاب والسنة وما جرى به عمل الصحابة والتابعين وأئمة السنة، دون أن يتطرق إلى ذهنهم أن كل المشارقة مسلمون، لا طائفية ولا مذهبية ولا مسيحية، إلى أن انتشر التعليم وتبين أن المشرق خلاف ما تصوره المغاربة، وبذلك وجب التنبيه، وانضاف إلى تلك الخميرة خل المذاهب الغربية، وغلو الخوارج ومن لف لفهم، فوجب بذلك إعادة القراءة للتاريخ وإبراز ما طواه النسيان أو أغفله الإنسان.