جوامع الكلم في القرآن الكريم -الحلقة الأولى- حسن بنعباس

لقد كانت روعة القرآن الكريم وسحر بيانه مستوليا على القلوب والأفكار، وكان يحس المؤمنون به بنشوة بالغة وهم يتمعنون آيات الذكر الحكيم، وكان الكافرون المعاندون يحسون في قرارة أنفسهم أن هذا الكلام ليس من كلام البشر، وكانوا يحسون بحلاوة عباراته وطلاوة أسلوبه والمعاني الثرة المغدقة في موضوعاته وأنه يعلو ولا يعلى عليه…

لقد كان الذوق العربي السليم يساعد أصحابه على إدراك الأساليب القرآنية في مخاطباته، وكانت قدسية القرآن وعظمته مسيطرة على نفوسهم، وكان الإقرار بالعجز عن الارتفاع إلى مستواه كامنا في النفوس.
وبقي هذا الأمر بعد عصر النبوة والخلفاء الراشدين وردحا من الزمن في الدولة الأموية، إلا أن صفاء السليقة العربية بدأت تفقد صفاءها، وبدأت الثقافات الفارسية واليونانية تأخذ طريقها إلى المجتمع الإسلامي، وبدأ الناس يفكرون بطريقة عقلية مجردة عن التذوق الجمالي وإدراك المعاني بالسليقة الصافية.
في هذه البيئة المختلفة بالتيارات الثقافية المتباينة، برز الحديث عن وجه إعجاز القرآن الكريم، وعن سبب عجز العرب عن الإتيان بمثل سورة من القرآن. فاختلفت المذاهب وتعددت الآراء حول هذه المسألة.
ولما كان الإعجاز البياني هو أول إعجاز منذ نزول أول آية من كتاب الله وما زال مستمرا إلى يومنا هذا، فالقرآن الكريم أعجز العرب الفصحاء أن يأتوا بمثله؛ بل بسورة من مثله؛ بل بحديث من مثله، مع أن العربية لغتهم، والبيان طوع ألسنتهم، لما كان ذلك ارتأيت أن أدلي بدلوي في هذا المجال، مع أني مزجي البضاعة وقليل الزاد، لكن يكفيني شرفا أنني أشتغل في القرآن الكريم خير كلام على الإطلاق.

المبحث الأول: معنى جوامع الكلم
1ـ معنى “جوامع”:
قال في اللسان: جمع الشيء عن تفرقة يجمعه جمعاً وجمعه وأجمعه فاجتمع واجدمع.
وأمر جامع، يجمع الناس، وفي التنزيل: “وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ” قال الزجاج: قال بعضهم: كان ذلك في الجمعة.
وفي الحديث: كان يستحب الجوامع من الدعاء(1 )..
وفي التاج: الجمع ضم الشيء بتقريب بعضه من بعض، يقال: جمعته فاجتمع.
والجامعة: الغل، لأنها تجمع اليدين إلى العنق كما في الصحاح، والجمع الجوامع. قال: ولو كبلت في ساعدي الجوامع( 2).
إذن فلفظ “جوامع” جمعٌ، مفرده “جامعة” وهي تحمل معنى الضم والجمع.
ويتبين من خصائص مادة “جمع” اللغوية، أنها تنصرف إلى معنى الاستيفاء والاستيعاب والسلامة والإحكام وكل ما يستغنى بقليله عن كثيره( 3).
2ـ معنى “الكلم”:
قال سيبويه: “هذا باب علم ما الكلم من العربية. فالكلم اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل( 4).
وقال ابن مالك رحمه الله في الألفية:
كلامنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكلم
فالكلم عند النحويين: اسم جنس جمعي، واحده كلمة؛ كلبن ولبنة، وبقر وبقرة،لأنه لا يقال إلا على ثلاث كلمات فأكثر، سواء اتحد نوعها أو لم يتحد، أفادت “قد نجح محمد” أو لم تفد “إن جاء إدريس” وقيل غير ذلك.
3ـ جوامع الكلم بالمعنى المركب:
فسر الزهري جوامع الكلم الواردة في الحديث النبوي: بأنه صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بالقول الموجز القليل اللفظ الكثير المعاني( 5).
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: عجبت لمن لاحن الناس كيف لا يعرف جوامع الكلم، معناه: كيف لا يقتصر على الإيجاز ويترك الفضول من الكلام( 6).
ويسمى أيضا الإيجاز الجامع: وهو أن يحتوي اللفظ على معانٍ متعددة، نحو قوله تعالى: ” إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَان…”(7 ).
وجوامع الكلم في الحديث النبوي: هو أن الله كان يجمع للنبي صلى الله عليه وسلم الأمور الكثيرة، التي كانت تكتب في الكتب قبله، في الأمر الواحد، والأمرين، ونحو ذلك( 8).
وسيأتي إن شاء الله بسط لمعنى جوامع الكلم والعلاقة بينه وبين الإيجاز في المبحث الآتي بحول الله وقوته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1 )ـ لسان العرب1/458 ابن منظور؛ مادة:جمع.
( 2)ـ تاج العروس 11/81؛ محمد مرتضى للزبيدي.
(3 )ـ عبد الرحمن بودرع، جوامع الكلم في البيان النبوي ص: 11.
(4 )ـ الكتاب؛ عمرو بن عثمان بن قنبر –سيبويه-.
( 5)ـ فتح الباري 13/308 الحافظ ابن حجر.
(6 )ـ لسان العرب 1/458 مادة جمع.
(7 )ـ معترك الأقران في إعجاز القرآن ص:222؛ جلال الدين السيوطي بتصرف كبير.
(8 )ـ الإيجاز وبلاغة الإشارة البيان النبوي ص:34؛ عبد الرحمن بودرع.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *