أصبح العالم ينظر إلى المغرب على أنه استثناء من الدول العربية التي تأكلها الفوضى، دول لا يزال أبناؤها يتناحرون حول السلطة حتى تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم، فهُجِّر أغلبهم كرها من بيوتهم التي دُكت على رؤوسهم، أما من بقوا أحياء فتشتتوا شذر مدر في البر والبحر، بحثا عن مأوى من لهيب البراميل المتفجرة، رموا بأنفسهم وأولادهم في البحر هروبا من موت محقق، بعد أن أصبحوا مخيَّرين بين الموت البارد أو الموت الحار.. ففضلوا أن يملأ الماء البارد أجوافهم فيموتوا غرقى، على أن يعذبوا في سجون طاغوت مثل بشار.. يحرقون بالنار مرارا وتكرارا حتى يصبح الموت أكبر أمانيهم، أو يبقوا تحت سقوف تُدك كل يوم على مَن تحتها مِن جراء القصف بالبراميل المتفجرة، ولسان حالهم يقول:
إذا لم يكن من الموت بد —– فمن “الخير” أن تموت “غريقا”
في ظل هكذا أوضاع، لا شك أن حالة المغرب تعد استثناء بكل المقاييس، وذلك لأننا نقيم مقارنة بين الجنة والنار،
فاستقرار المغرب استثناء من الفوضى العارمة التي عمت ربوع الربيع.
استثناء من دمار شامل،
استثناء من حرب أهلية.
لكن ليس استثناء من احتكار السلطة،
ولا استثناء من الفوضى السياسية،
ولا استثناء من الاستبداد في الحكم، والاستحواذ على الثروات.
لهذا، فلكل مغربي الحق أن يتساءل بعد مضي أربع سنوات من عمر حكومة مابعد دستور 2011:
ما الذي جناه المغاربة من الإصلاح في ظل الاستقرار؟
وأين تكمن ملامح الإصلاح؟
وهل ضعف رموز الفساد، وحيل بينهم وبين استنزاف الثروات، وممارسة السلطة لعرقلة الإصلاح والحيلولة دون وقوعه؟
حقيقة، حتى لا نكون عدميين، نعترف بأن النظام المغربي بذل جهودا ملموسة في الإصلاح لعل أبرزها تجلت في النزاهة التي عرفتها انتخابات 4 شتنبر 2015، وبدا بوضوح أن زمن التزوير المباشر قد مضى وانقضى، وشهد المراقبون لوزارة الداخلية والعدل بالتزامهما الحياد.
الأمر الذي عكست معه نتائجُ الانتخابات الجماعية والجهوية الإرادةَ الحقيقية للناخبين، واكتسح حزب العدالة والتنمية كل المدن، ونفى الفساد والمفسدين إلى البوادي، حيث الفقر والأمية والجهل والخوف والتهميش والشطط في استعمال السلطة والرشوة.
وبدا واضحا أيضاً أن لا مفر لرعاة الفساد من الاعتماد على عدد مقاعد القرى الذي يشكل قرابة ثلاثة أضعاف المقاعد في المدن، حتى لا يظهر الفوز الساحق للعدالة والتنمية على المستوى الجماعي في المدن وعلى مستوى الانتخابات الجهوية المباشرة، وحتى يبقى ذراع حكومة الظل في الحياة السياسة أقوى الأذرع.
لكن نزاهة الانتخابات الجماعية والجهوية لا تكفي، ما دامت العملية السياسية برمتها لم تؤت أكلها، ولم تعكس إرادة الناخب في النهاية وكرست الاستبداد وفوز الفاسدين.
فثالثة الأثافي التي كان لا بد منها حتى تشتغل وتشتعل نار كانون الجرار من جديد، -بعد أن أطفأتها لمدة وجيزة ريح الانتخابات الجماعية والجهوية-، تمثلت في المهازل التي عرفتها عمليات انتخاب رؤساء الجهات.
فبقدرة قادر دخل من النوافذ ليلا من طردوا من الأبواب نهارا، زعماء الفساد الذين طردهم الناخبون وأزاحوهم عن كراسي تسيير المدن والجماعات، رجعوا إلى اعتلاء كراسي رئاسة التدبير الجهوي الذي يعتبر أقوى وأخطر، من العموديات والمقاطعات، وذلك ضدا على المنطق والحسابات وخلافا لإرادة الناخبين.
فالمواطن ينتخب المرشح ليحارب الفساد وليحفظ له حقه من الثروة وينوب عنه في إدارتها، لكن المرشح المنتخَب يبيع صوته وقيمه للمرشح الفاسد نفسه الذي أزاحه المواطن وأقصاه.
فهل يبقى مع هذا معنى للمشاركة السياسية؟
وهل يمكن الوصول إلى أعشاش المفسدين بهذه الطريقة؟
وهل يمكن استكمال شروط نجاح الاستثناء المغربي وخيار الإصلاح في ظل الاستقرار؟
كيف يمكن أن تُبنى الثقة بين النظام والشعب؟
ألا يعطي هذا التلاعب بإرادة المواطنين مسوغا وقوة لموقف جماعة العدل والإحسان، وحركة 20 فبراير، وكل دعاة المقاطعة؟
كيف يمكن أن يستوعب كل مَن لبى الدعوة الملكية للتصويت والمشاركة واختيار مَن يدبر أموره نتيجة انتخاب رؤساء الجهات؟
كيف يمكن أن يفهم الملايين من المواطنين الذين أنجحوا العملية الانتخابية برمتها، أن يحل الفائز في الانتخابات المباشرة الجهوية (العدالة والتنمية) في المرتبة الثانية، ولا يحرز إلا على رئاسة جهتين: واحدة ضعيفة مهمشة، والأخرى إدارية مخزنية، فيصبح مثله مثل باقي الأحزاب منتهية الصلاحية.
في حين يستحوذ حزب البام، الذي أنشئ على غرار الأحزاب الإدارية، والذي طُرد رموزه من إدارة المدن على رئاسة خمس جهات هي الأكثر أهمية والأغنى ثروة؟
فهل نذالة الأحرار المزوَّرين كانت طبعية؟
وهل تزويرهم لإرادة الناخبين كانت بأوامر من مزوار الوجه الآخر لإلياس وبنشماس؟ الجواب عند منصف بلخياط.
وهل إضعاف شباط لحزب الاستقلال بعد خروجه من الحكومة، كان رعونة من شباط أم تنفيذا لحسابات دقيقة تجلت في مؤامرة انتخاب رؤساء الجهات حيث صوت نور الدين مضيان الاستقلالي لصالح إلياس العماري الفاشل في مقاطعته، في حين فضلت ياسمينة بادو التصويت على الباكوري؟
وهل خروج مزوار وحزبه من المعارضة ودخوله بدلا عن شباط إلى الائتلاف الحكومي، كان تكتيكا من القائمين على حزب الجرار، ذراع حكومة الظل في الحياة السياسية، ليلعب العبيد أدعياء الحرية، الدور الأقذر في اللعبة السياسية، ويكونوا بمثابة الحمير الذين يسحبون الجرار المهترئ من المدينة حيث تعطل محركه، ليمكنوه من إفساد الحرث في الجهات الخمس الأكثر حيوية في المغرب؟
فلا شيء يمكن أن نفسر به خيانة مزوار وحزبه للناخبين قبل خيانته للاتفاق المبرم بين أحزاب الأغلبية، سوى هذا الذي أسلفنا؟
وهل الباكوري الذي فشل في أن يحرز مقعدا في دائرته يصلح ليمثل المواطنين على رأس أخطر وأكبر وأغنى جهة في المغرب؟
وهل له صفة المناضل أو السياسي أصلا؟ فالمسكين أُتي به من صندوق الإيداع والتدبير ليرأس حزبا لا شرعية سياسية له، لينتقل بعدها إلى رئاسة الجهة.
لماذا لم يجعلوا رؤساء الجهات يعينون كذلك بالقرارات، وتنتهي المهزلة، ما دام النضال ليس شرطا في الرئاسة والترؤس، ومادام الهَزل والهُزال هو الطابع الغالب على ديمقراطية الضرورة التي أفرزتها ربيعيات العرب، حيث تتغلب سلطة الأقوى وقوة المتسلط على قوة الأصلح والأنزه والأكفء؟
إن الذين يلعبون بالنزاهة والشفافية في تدبير الشأن العام، ويكرسون التحكم السياسي، إنما يلعبون بالدرجة الأولى بمكانة المؤسسة الملكية التي استمالت المواطنين بخطابها الداعي إلى المشاركة السياسية في انتخابات 4 من شتنبر، هذه الدعوة التي كانت سببا مباشرا في ارتفاع نسبة مشاركة المواطنين ثقة منهم في توجيهات ملكهم، خلافا للاستحقاقات الماضية.
فمن الذي أرهبه فوز العدالة والتنمية واكتساح رجالاتها للمدن؟
ومن يرهبه تغول العدالة والتنمية في حالة ما لو ظفر برئاسات الجهات؟
مَن المتضرر من إدارة رجال العدالة والتنمية المشهود لهم بالنزاهة ونظافة اليد في حالة ما جمعوا بين ميزانيات المقاطعات والعموديات والجهات وما تشكله من سلطة على الثقافة والاقتصاد والسياسة؟
أسئلة نرجو، بل نلح أن يجيب السيد بنكيران الشعب المغربي عنها بكل شفافية دون اللجوء إلى كناية العفاريت ومجاز التماسيح.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
إبراهيم الطالب/جريدة السبيل
ettalebibrahim@gmail.com