تقديم: عرفت مدينة الدار البيضاء منذ ليلة 08/12/1952 حوادث دموية أسفرت عن مصرع عدد كبير من القتلى والجرحى بينهم أربعة فرنسيين، وذلك بعد الدعوة إلى تنفيذ إضراب شامل من قبل الحركة النقابية في عموم المغرب، وأقدمت فرنسا على ذلك أيضا انتقاما من رجالات الحركة الوطنية بمناسبة عرض قضية المغرب على الأمم المتحدة، وإخضاع السلطان محمد بن يوسف للتوقيع على عدد من الظهائر المتعلقة بالحكم المباشر والتبرؤ من الأحزاب الوطنية ومطالبها الرامية للاستقلال.
ومن الأصوات الفرنسية المثقفة الحرة حينها المؤرخ “شارل أندري جوليان” الذي دعا “مركز المثقفين الكاثوليكيين” لمناقشة الوضع بالمغرب، فتم ذلك في 26/01/1953، وبعث على إثره برسالة في موضوع الحادث لجريدة (لوموند)، جاء فيها:
سيدي المدير:
لقد كنت حاضرا لمناقشات حول مشاكل الشمال الإفريقي التي نظمها في السادس والعشرين من شهر جانفيي (مركز المثقفين الكاثوليك)، ولقد رأيت أن أدلي ها هنا بشهادة لا يمكن أن تتطاول عليها أية شبهة، يقدمها رجل (بروتستانتي) غير متدين حول هذا الاجتماع الذي رأيت له أهمية جد عظيمة.
هو اجتماع عظيم من جهة، نظرا لقيمة الذين شاركوا فيه، فسُمُوُّ أفكار ونظريات فرانسوا مورياك، وذكاء وشجاعة الراهب المحترم فوالوم، وتعطش السيدين دي بيريتي وكورفال إلى الحقيقة والعدالة، وواقعية “مسيو بارا” الملتهبة والمعتدلة في آن واحد، كل ذلك مجتمعا، قد كوَّن في أنفس المجتمعين تضامنا في العدالة، وأحدث في ضمائرهم أزمة جديرة بأسمى التقاليد المسيحية.
وهو اجتماع عظيم من جهة أخرى لأن الانعطاف المسيحي كان يتوجه فيه إلى المسلمين، بقطع النظر عن كل خلاف ديني، ولأن المسيحيين كانوا يستنجدون بكل ذي شرف ومروءة لنصرة الحق، مهما كان فكره السياسي، أو معتقده الديني.
وأنه أخيرا لاجتماع عظيم، لأنه بيّن أن بعض رجال الدولة المسؤولين لا يستطيعون أن يبقوا جامدين تجاه حيرة واضطراب إخوانهم في الدين، (هنا تقول جريدة لوموند: وبعد أن عرض م شارل أندري جوليان البلاغين الصادرين عن وزارة الخارجية وعن دار الإقامة العامة بالرباط عن عدد ضحايا الحوادث، استطرد يقول:
“لولا أن الحكومة قد اتخذت لنفسها عادة مخادعة الرأي العام، ومغالطته بصفة مطلقة حول قضايا الشمال الإفريقي، كما أكده بقوة وشدة مراس مسيو متران الوزير السابق، وصاحب التقرير عن المسألة التونسية، لولا ذلك لكان صدور بلاغ رسمي كافيا لإزالة الحيرة عن الأنفس.
لكن لا يوجد أبدا من يستطيع تصديق بلاغ رسمي وفي مقدمتهم أولئك الذين يتولون تحرير نصه.
إن مسيو بارا في عنفوان شبابه وفي إخلاصه العظيم، لم يكن يتوقع الصفة التي سوف يستعملون بها الأرقام التي ذكرها مع أخذه الحيطة اللازمة، وقد كان يجهل أن للحكومات طرائق في إدخال الشك على النفوس منها أنها تعمد لتكذيب نقطة معينة مشكوك في صحتها، لكي تحدث الريبة حول سائر النقط الأخرى.
لكن الحالة اليوم تكتسي صبغة من الخطورة استثنائية، توجب علينا أن لا نقف عند هذا الحد، وأن نسير إلى الأمام.
فإذا كان الكي دورساي (وزارة الخارجية )، وإذا كانت الإقامة العامة بالرباط قد دخلتا حسب ما يظهر في دور الاعترافات السرية، فهل تستطيع هذه وتلك، أن تضع حدا لهذا القلق العظيم الذي يساور الأنفس، وذلك بالإجابة، وبصفة مدققة عن هذه الأسئلة التالية:
ما هي (النداءات إلى إحداث الفتنة) التي تكلم عنها الجنرال كيوم؟
إننا لا نعرف إلا نداء واحدا صدر عن اتحاد النقابات إلى الطبقة الشغيلة، وإلى الشعب المغربي، وإننا لم نجد في ذلك النداء أي شيء أو أية كلمة يمكن أن تتوجه نحوها هذه التهمة؟
ثم، كيف تستطيعون أن تفسروا لنا، اجتماع ألف وستمائة عامل صبيحة الأحد سابع ديسمبر بعد صدور (النداءات إلى إحداث الفتنة) في دار جامعة النقابات، ثم رجوعهم هادئين إلى منازلهم في (البيدونفيل) أي قرية الصفائح، مخترقين المدينة الأوربية دون أن يحدثوا أي حادث، ودون أن يتفوهوا ولا بكلمة عدائية واحدة؟
ولماذا يا ترى لم تقع الحوادث المؤلمة الخطيرة الأولى، إلا خلال الليلة الموالية لذلك وفي جهة (البيدونفيل) الكائن بالمقطع المركزي فقط؟ وبعد أي تدخل وقعت هاتيك الحوادث؟
وما هما (الاعتداءان بواسطة إلقاء القنابل اليدوية) الواقعان صبيحة يوم 7 ديسمبر؟
فهل يا ترى الجنرال كيوم يدخل فيها ما وقع من انفجار قنابل يدوية في دهليز صيدلية؟ وقد أثبت البحث البوليسي نفسه أن ذلك الحادث لا يمت إلى السياسة بنسب، وقد أذاعت هذا التأكيد نفس الشركة الإخبارية الرسمية الفرنسية!
أما (الاعتداء الآخر) فهو الواقع ضد إدارة جريدة (العزيمة) فهناك شخصيات مطلعة بصفة ممتازة قد أكدت بأن البحث حول هذا الاعتداء لم يأت بأي نتيجة، فإذا ما حصحص الحق عن شيء بعد ذلك، أفليس من اللائق كشفه والإدلاء به؟
وهل يمكن أن تقدموا لنا بيانات مدققة عن (شبكة الفيران) الواقع بدار اتحاد النقابات، إذا استعملنا نفس الكلمة التي جعلتها جريدة (البتي ماروكان) عنوانا لمقالها يوم التاسع من ديسمبر؟
وهل صحيح أن قوى المحافظة على الأمن التي لم تكن تجهل أن رئيس الناحية قد منع ذلك الاجتماع، قد تركت ألفين من العمال يدخلون دار اتحاد النقابات دون أي ممانعة أو اعتراض؟
وهل وقعت محاصرة الدار بواسطة قوى هائلة من الدرك المسلح بعد أن غشيتها حرة جماعات العمال، فكانت تلك القوى تلقي القبض على المتظاهرين عند خروجهم فتعتدي بالضرب على جماعة منهم، وتسلم جماعة أخرى إلى الغوغاء التي تباشر أعمال الانتقام الفظيع (اللانشاج)؟
إنه لا يكفي لإزالة القلق والاضطراب في النفوس المتعطشة لمعرفة الحقيقة تهديد ثلاثة عشر من مدرسي المدارس العليا، أقدموا على الإدلاء بشهادتهم العادلة في هذه القضية بإبعادهم عن أرض المغرب وإرجاعهم إلى البلاد الفرنسية.
فالجنرال كيوم لم يشر أدنى إشارة إلى هذا الحادث، لكن الرأي العام يعتقد مع ذلك أن له الحق في الإطلاع على ماهية (الشدة المتناهية) التي استعملت لإبعاد (المترشحين للجريمة) إلى خارج البلاد، حسب تعبير (البتي ماروكان).
الرأي العام يريد أن يعرف كيف كانت (خدمة) البوليس كامل عشية ذلك اليوم، وعلى أي طريقة فنية، كان يقع تسليم الفئة بعد الفئة من العمال إلى جموع السكان الأوربيين المتجمهرين رجالا ونساء في تلك الحارة، فكانت تلك الجموع تتلقى طوائف العمال بصرخة (يا قاتلين) وتعتدي على البعض منهم اعتداء مبينا (حسب عبارة جريدة لافيجي ماروكان).
لم يبق اليوم أثر لتلك الأكذوبة التي زعمت أن جماعة من الفتيات قد انتهكت حرمتهن، ثم ذبحن بعد ذلك، والحالة أن هذا الخبر قد نشر بعناوين ضخمة على عدة أعمدة من واجهات الصحف.
وقد أكدت وزارة الخارجية أن عدد القتلى من الأوربيين قد كان أربعة، وهو عدد ويا للأسف عظيم، لكنه عدد بعيد كل البعد عن تلك المبالغات الجنونية التي نشرتها صحف المغرب الأقصى.
ثم إن الجنرال كيوم كان دون ريب مطلعا على حقيقة الحالة، فلماذا يا ترى نراه يستعمل هذه الجملة (كثير من الأوربيين الذين لا يملكون وسائل الدفاع قد قتلوا ليلة ونهار 8 ديسمبر).
فعلى أي شيء استند لكي يستطيع إثبات التاريخ بهذه الصفة؟
إن ثلاثة من القتلى قد لاقوا حتفهم بعد التصادم الذي وقع بين المتظاهرين وأعوان السلطة في عشية يوم الثامن من ديسمبر، أما القتيل الرابع وهو مسيو مورا الذي وقع التباس في أمره فدعته بعض الصحف مسيو مورو وهو لا يزال حيا يرزق فليس بين أيدينا تدقيقات تثبت لنا بالضبط ساعة مقتله، إنما الأمر المعتقد الآن هو أنه قد قتل عشية يوم الثامن من ديسمبر على أكثر تقدير.
فهل يا ترى قد وقع اكتشاف وثائق أخرى تثبت وجود قلاقل أو مظاهرات مجهولة خلال الليلة الممتدة من السابع إلى الثامن من شهر ديسمبر؟
لقد ثبت أن مسيو ريب وهو أحد القتلى (قد تقدم طوعا واختيارا أمام صفوف المتظاهرين، وقد أثبتت الشهادات أنه كان يحمل مسدسا، وأنه ألقى منه طلقتين على المتظاهرين الذين هاجموه).
وأخيرا هل يحق لنا أن نعرف بعد كل ذلك مدى عمليات الزجر والقمع وعلى أي قاعدة وقع إلقاء القبض على مئات الناس أثناء العمليات التي وقعت والتي لا تزال تقع؟
وهل صحيح حسب ما تؤكده بعض الذوات العميقة الإطلاع أن هذه الاعتقالات كان المقصود الحقيقي منها هو ضرب كامل الطبقة المتنورة المغربية مهما كانت عاطفتها ومهما كانت هويتها؟
لقد يَلِّدُ لجماعة عظيمة من الفرنسيين في بلاد المغرب الأقصى أن تؤكد قولها بأنه لا بد من الإقدام على حركة زجر عميقة جدا لكي يتحقق السلام في المغرب لخمس وعشرين أو لخمسين سنة، ويقول بعض المتنطعين منهم إن أثر ذلك يجب أن يستمر ثلاثة قرون.
إن واحدا من أولئك الغلاة ومن أكثرهم تمثيلا وأظهرهم شأنا قد تجشم مشقة القدوم إلي منذ أيام قليلة لكي يطنب لي في شرح برنامج عمله ووجهة نظره وهي تتلخص، فيما يلي:
خلع السلطان، والإرسال بفرق مسلحة قوية لتحافظ على الأمن بوجودها، وإبعاد العنصر العربي كله من بلاد المغرب الأقصى لكي يرجع لها بعد ذلك أصلها البربري.
يخيل إليك وأنت تسمع هذا القول: كأنك في منام لا في يقظة! لكن لا يجب أن ننسى أن فكرة إنشاء جمهورية مغربية يتولى الفرنسيون القيام عليها إسوة بجمهورية الأمريكانيين في إفريقيا الجنوبية إنما هي فكرة قد أخذت تنتشر وتعم إلى درجة أنه أصبح من قلة التبصر تجاهلها.
لكن ماذا يبقى عندئذ من سلطة ومن نفوذ بين يدي الوزارة الفرنسية بباريس؟
إننا ربما كنا مضطرين في الغد القريب لرفع هذه القضية فوق منصة الرأي العام، ولعل ذلك يكون مناسبا لصدور تكذيبات من وزارة الخارجية ومن الإقامة العامة بالرباط، أوليس من الأولى والأصلح أن نحاط علما بتطورات البحث عن هذه المسألة؟
إن مبدأ التفريق بين السلط لم يمنع من الإدلاء ببيانات واسعة عريضة عن سير البحث فيما يتعلق بحوادث الاعتداء على الفرنسيين، فحذار حذار أن تتلاعبوا بالعدل، مثل التلاعب بالسلطة والتلاعب بالأخبار.
لقد آن الأوان لأن تتجلى القيم الحقيقية التي دافع عنها الخطباء في المركز الثقافي، وأنه ليجب أن لا تقع التضحية بتلك القيم الحالية، فداء فكرة دفاع عقيمة عن نفوذ الدولة.
شارل أندري جوليان
أستاذ بجامعة السربون
وعضو مجلس الاتحاد السوفياتي
المرجع:
كتاب “للحقيقة والتاريخ.. هذه هي الحماية في مراكش” بمناسبة الذكرى الواحدة والأربعين لفرض نظام الحماية (30/3/1912-30/3/1953)؛ وفد حزب الشورى والاستقلال بالشرق (لجنة تحرير المغرب العربي) مطابع دار الكتاب العربي بمصر (ص:113-119).