إذا كان إخواننا في (الحركة الإسلامية) يرون أن إصلاح ما فسد من أمر تدبير الشأن المحلي، إنما يتحقق بالمشاركة السياسية، بخوض غمار العملية الانتخابية ترشحا وانتخابا، وأن هذا هو المسلك الذي نحارب به الفساد ونقطع به الطريق على المفسدين؛ فإنني أقول لهم متعجبا: وهل يستقيم الظل والعود أعوج؟!
ومتى يرجى انصلاح أمر قائم على التسوية بين الصالح والطالح، وبين النزيه والسفيه..؟! سواء تعلق الأمر بالمرشَّح المنتخَب أو بالمصوِّت المنتخِب، والله تعالى يقول: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص 28]
.. وأنا أعلم أن إخواننا في (الحركة الإسلامية) يخشون ـ إن هم جهروا بهذه الحقيقة ـ أن يتهموا بمعاداة الديمقراطية والتدخل في حرية المواطن الذي اختار الانحراف على الهداية، وآثر الطلاح على الصلاح، ولكن أشعة الشمس لا تغطى بالغربال؛ وإذا كان (النفاق السياسي) بارعا في قلب الحقائق، وإظهار الفاسد صالحا، واللص نزيها، والكافر مؤمنا ..، فإن (الممارسة السياسية) تفضح ذلك كله:
لقد أطت آذاننا، وحُق لها أن تئط! لأن الأحزاب السياسية في صراعها المحموم وتنافسها المذموم على مقاعد التدبير، لم تفتر -عبر الإعلام والمنشورات والخطابات- تؤكد على حرصها على النزاهة والشفافية، وأن المواطن ينبغي أن يقول كلمته بعيدا عن المؤثرات المادية والدعوات المصلحية، كما أكدت الداخلية ـ على عادتها ـ على أن كافة الإجراءات اتخذت لضمان النزاهة وصيانة العملية الانتخابية …
فما إن انطلقت الحملة يوم الاثنين فاتح يونيو، حتى رأينا (السيناريو) المعروف يتكرر:
الأحزاب تنتج خطابا متعدد الوسائل، تزعم فيه مزاعم كثيرا ما ترددت، ولم يطبق منها إلا ما فيه تحقيق مصالح السياح والطبقة الغنية، وقبل ذلك الطبقة المنتخَبة، أما المساكين والفقراء والضعفاء وذوي الحال المتوسط فلا يجدون من يخدم مصالحهم بالشكل المرضي -إلا من رحم الله-، والمستشفيات والإدارات والمؤسسات التعليمية وغيرها خير شاهد.
.. توزع منشورات تتضمن صور أناس نعرف الكثير منهم؛ عامتهم من أولئك الضعفاء أو المستضعفين الذين فشلوا في دراستهم وربما في حياتهم كلها، فهرولوا إلى الترشح طمعا في أن يَفتح لهم بابا يتمعشون منه!!
أجل؛ يتمعشون من المال الذي يفترض أن ينفق في الصالح العام ..
سمعت -وأنا أتأمل في مظاهر الحملة- نساء وأطفالا وشبابا وشيبا يجوبون شوارع الأحياء داعين إلى أحد المرشحين؛ يقولون: (ما عطانا ما عطيناه، غير حنا اللي بغيناه)، فقلت: سبحان الله! كثير من هؤلاء معروفون بفاقتهم وحاجتهم، والواحد منهم مستعد أن يشهد شهادة الزور، أو يركب قارب الموت، أو يقترف جريمة في مقابل دراهم معدودة أو حياة مادية رغيدة ..
فهل على أكتاف هؤلاء المساكين نريد بناء مغرب الغد ودولة الحق والقانون؟؟!!!
إن الذين يشرفون على هذه المهازل هم أنفسهم الذين يمتطون صهوة جواد الإعلام الذي يترنح بهم وهم يؤكدون حرصهم على النزاهة والشفافية، وبعدهم عن استعمال المال الحرام والنفوذ وتطلب المصالح الشخصية..
وقد تعجبت من برنامج (حوار) في الأولى، ونظيره (مباشرة معكم) في الثانية، وحرت في تحديد مقصدهما..
هل هو النقد البناء من أجل إصلاح الفاسد؟
أم التمكين للقوم من أجل دفع التهم عن أنفسهم؟!
فمدير الجلسة والإعلاميون الذين يفترض أن يمثلوا لسان المُساءل المحاسِب، يطرحون التهمة ويسلمون للجواب تسليما! ولا يراجعون الأجوبة الحربائية ولا يثبتون الحقائق بالحجج الكافية.
وبهذا يسهم الإعلام –قصد أو لم يقصد- في تلميع أرباب الفساد والدعاية لهم، هذا التلميع الذي استعملت فيه وسائل عديدة، وصار بسببه تاجر الحشيش حاجا يقبل رأسه! ومدمن الخمر شريفا يقبل كتفه، وآكل أموال الناس بالباطل مناضلا تعلق عليه آمال الإصلاح اليتيمة، وأحلام التنمية المسكينة ..
وإذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: “إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه” [متفق عليه]؛ فإن العديدين من الحريصين على المشاركة في تدبير الشأن المحلي تجاوزوا الطلب إلى التنافس، بل إلى التناحر والتباغض، كل حزب يدعي أنه ابن بجدتها وأبو بأسها ونجدتها، وكل حزب بما لديهم فرحون.
حتى الحزب الفتي الذي وصف الأحزاب الأخرى بالهرم والشيخوخة، واتهمها بالجناية على الديمقراطية وخيار الحداثة، إنما سطع نجمه في سماء السياسة الملبدة، وظهر طالعه في أبراج الانتخابات المكلومة، بأساليب ووسائل تتنافى مع الشفافية والديمقراطية التي جعل نفسه وصيا عليها ومنقذا لها من قبضة الأصولية والظلامية!
وهكذا رأيناه يسلك المسالك نفسها التي عاب على الأحزاب الهرمة ـ على حد تعبيره ـ، ورأيناه يستقطب البرلمانيين من أحزاب شتى ويزعم أنهم رحلوا إليه بمحض إرادتهم، ورأيناه ينتقل من الائتلاف إلى المعارضة في سياق مريب، ورأيناه يؤطر حملته بنفقات هائلة، يظهر بسببها بمظهر الجاذبية والجمال، ورأيناه -هو أيضا- يوظف أولئك المساكين الذين يمثل حالهم قرينة على مقاصدهم، وسمعنا كيف استعملت إحدى مرشحاته بجماعة (بو القنادل) الإغراء الجسدي لإقناع الناخب، وظهرت بصورة مخلة بالأخلاق في حملة جعلت شعارها: (نحو تخليق الحياة السياسية)، ورأينا كيف تصدر لائحة الذين قدمت ضدهم الشكاوى التي بلغت في حقه 88 شكاية، ورأينا كيف وصل به الصراع على المقاعد إلى الدخول في مشادات كلامية ساقطة واشتباكات خطيرة ..إلخ ..إلخ
فإذا كان هذا هو حال من يدعي أنه جاء لمحاربة الفساد والمفسدين، فما بالك بأولئك الموصوفين بالمفسدين؟!!
وبمناسبة ذكر ما عرف بظاهرة الترحال؛ أقول: إنها دليل قاطع على أن مصطلَحَي المبدأ والنضال مفرغان من معناهما عند الكثيرين؛ فالواحد من أولئك الرُّحل كان بالأمس القريب يعد نفسه مناضلا، وكان يلقي الخطب الرنانة في التمسك بمبادئ الحزب والتضحية من أجلها..، وبين عشية وضحاها ينتقل إلى حزب آخر!!
فالمبدأ –على الحقيقة- هو الدرهم والدينار، والنضال إنما هو من أجلهما أو من أجل فرض القناعات وإقصاء التوجهات المخالفة ..
إن نظام الانتخابات يحمل في ذاته عوامل فشله حين يسوي كما قلنا بين الصالح والفاسد، مما يجعل الفرصة دائما سانحة أمام الفاسدين الانتهازيين ليتسللوا إلى المرافق العمومية فيمارسوا فسادهم كما يحلو لهم، مستعينين بنفوذ سلطة الكرسي وبما توفره الإدارة من ميزانيات.
أما بعد؛ فلا مناص لنا من أن نشهد ونقر بالواقع المر، وهو أن الممارسة السياسية المؤطرة لعملية تدبير الشأن المحلي تعاني من فساد جذري لن تجدي في علاجه الدعوة إلى الإصلاح الجزئي، وإظهار الأماني الجميلة: (حملات نظيفة)، (تنافس شريف)، (رفض المساومة على الذمم)، (مناهضة أي محاولة للاتجار بالأصوات) …إلخ
إن هذا الفساد المتجذر يستدعي رجوعا صحيحا حقيقيا إلى الدين، وتحكيمه في السياسة، وتمكينه من إصلاح ما فسد من أحوالنا، هذا الدين الذي يزرع في النفوس عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر والخوف من عقاب الله المورثة لرقابة سلوكية ذاتية، و(تخليق) حقيقي فعال ..
من هنا يبدأ الإصلاح السياسي، ومن هنا يبدأ الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي، وقد صدق ابن خلدون حين أكد بأن العرب أمة لا تصلح إلا بالدين.
وما دمنا نعد هذا المسلك ظلامية وتخلفا! ونشرا لثقافة اليأس والانكماش! وترسيخا للمجتمع الديني المنغلق ..إلخ؛ ما دامت هذه نظرتنا إلى عنصر صلاحنا وإكسير شفائنا ودواء عللنا؛ فإن حليمة ستبقى على حالها القديمة، و{سَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} ..