ومن الناس… حسن فاضلي أبو الفضل

ورد ذكر لفظة الناس في القرآن الكريم في أكثر من مائتين وأربعين موضعا، وهي جمع إنسان على غير جنس المفرد، وأغلب معانيها في هذه المواضع مرتبطة بالذم وعدم الإيمان، وأكثرها يأتي في بداية الآيات وبعد الوقف مسبوقا بـ”من” التبعيضية. إلا القليل فيأتي في أواسط الآيات والنادر من معانيها هو الذي يرتبط بالمدح ووجود الإيمان، إذ الوصف الطبيعي للناس أنهم من أهل المدح والفضل، ولا يقال “الناس” لمن انعدمت فيهم هذه الصفات الطبيعية الأصلية إلا تجوزا. وكأنه يكفي لنعت جماعة من البشر بالفضل والصلاح أن تقول لهم: الناس.
أما إذا عُدِموا هذه الصفات ونُعتوا بالناس فإنما ذلك تجوزا لا على الحقيقة، ووصفهم بذلك في هذا المقام متعلق بالجسد والظاهر لا بالقلب والباطن، ومن هنا قال الراغب -رحمه الله-: “والناس قد يذكر ويراد به الفضلاء دون من يتناوله اسم الناس تجوزا، وذلك إذا اعتبر معنى الإنسانية وهو وجود الفضل والذكر وسائر الأخلاق الحميدة والمعاني المختصة به فإن كل شيء عدم فعله المختص به لا يكاد يستحق اسمه كاليد، فإنها إذا عدمت فعلها الخاص بها فإطلاق اليد عليها كإطلاقها على يد السرير ورجله”1 والمعنى أن الناس فرع عن المعاني النبيلة الخيرة، وما هذه المعاني إلا معاني الفطرة والتوحيد، فإذا فُقدت في الأصل فُقدت في الفرع، فإذا لا (الناس) لمن ضاعت منهم هذه المعاني.
وتأصيل ذلك وبيانه من القرآن الكريم كما يلي:
1- قال تبارك وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} البقرة:8، وسياق الآية أنها في المنافقين، فبعد ذكر الله تعالى للصنف الأول من الناس وهم أهل الإيمان الخلص والصنف الثاني وهم الكفار الخلص، ذكر تعالى صنفا ثالثا أخذوا من هؤلاء الظاهر ومن هؤلاء الباطن وهم أهل النفاق حقيقة. ولأن الله تعالى قال: (وَمِنَ النَّاسِ) دال على الاستغراب واستبعاد حصول الأمر لكونهم “النَّاسِ”، فلما قالوا: (آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) ظاهرا، بين العليم الخبير باطنهم بقوله: (وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ)، فكون الناس ناسا يقتضي الإسلام والإيمان، فلما لم يكن ذلك جاءت “مِن” التبعيضية في بداية الآية لإخراجهم عن مقتضى الوصف ولبيان الاستغراب لحصول ذلك منهم، فلا هم على الإيمان هدوا ولا هم في الكفر بقوا، ولكن على النفاق. ولذلك “ذكر سبحانه في أول هذه السورة المؤمنين الخلص، ثم ذكر بعدهم الكفرة الخلص، ثم ثالثا المنافقين، وهم الذين لم يكونوا من إحدى الطائفتين بل صاروا فرقة ثالثة، لأنهم وافقوا في الظاهر الطائفة الأولى وفي الباطن الطائفة الثانية (..) و”مِن” تبعيضية، أي بعض الناس، و”مَن” موصوفة، أي ومن الناس ناس”2 يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، يوافقون أهل الإسلام عملا ويخالفونهم إلى أهل الكفر اعتقادا. فلما حصل ذلك منهم وهم (ناس) كانت الغرابة والعجب، أي كيف يحصل هذا من الناس وهم (ناس)!؟ وكأنهم خرجوا من معاني الإنسانية وحقيقتها إلى أشكالها ومجازاتها، وبعد ذلك بين الله تعالى هذا الذي حصل منهم من إظهار الإيمان وإبطان الكفر بقوله: {يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} البقرة:9؛ أي أن هؤلاء الذين أُخرجوا من عموم الناس يعتقدون -إيهاما لأنفسهم- أنهم خدعوا الله تعالى والذين آمنوا بإظهارهم بلسانهم -تقية- ما يخلصهم من القتل والسبي والعذاب العاجل وهم لغير ما أظهروه مستبطنون، وذلك من فعلهم وإن كان خداعا للمؤمنين في عاجل الدنيا فهم لأنفسهم بذلك خادعون3؛ لأن الله تعالى يعلم ظاهرهم وباطنهم وموحٍ بذلك إلى نبيه عليه الصلاة والسلام فمخبر المؤمنين، فلا يكون الخداع إلا توهما من المنافقين ولذلك كان هذا في الأصل خداعا لأنفسهم؛ لأن خداع من لا ينخدع خداع لأناه، ولهذا جاء قوله سبحانه: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ) بحصر الخداع وإرجاعه إلى النفس المخادعة إشعارا “بأنهم لما خدعوا من لا يُخدع كانوا مخادعين لأنفسهم، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن (..)، والمراد بمخادعتهم أنفسهم أنهم يمنونها الأماني الباطلة، وهي كذلك تمنيهم.
قال أهل اللغة: شعرت بالشيء فطنت، قال في الكشاف: “والشعور علم الشيء علمَ حسٍ من الشعار، ومشاعر الإنسان: حواسه، والمعنى أن لحوق ضرر ذلك لهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له”4 فهؤلاء إذن من الناس.
2- قال عز وجل: (سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا) البقرة: 142، هو إخبار منه سبحانه بأن فئة من الناس سفيهة ستقول كذا وكذا، وفي اللغة “السفه: خفة في البدن، ومنه قيل زمام سفيه: كثير الاضطراب، وثوب سفيه: رديء النسج، واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل، وفي الأمور الدنيوية والأخروية”5. فمعاني السفه أو السفاهة دائرة بين النقصان والاضطراب، وهو السبب في كون هؤلاء قالوا: (مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا)، لنقص وسفه في عقولهم؛ ولذلك أُخرجوا من معاني الإنسانية الكاملة إلى غيرها مع احتفاظهم بصورها شكلا، فكان منهم هذا التساؤل -تشكيكا- عن تغيير النبي عليه الصلاة والسلام قبلته إلى المسجد الحرام، ومن هاهنا وصفهم الله تعالى بالسفه المقتضي لإخراجهم من كمال الإنسانية، فيكفي وصفهم بهذا للدلالة على نفاقهم أو كفرهم أو شركهم؛ لأنهم فقدوا المعنى الذي يدخلهم في الناس حقيقة المترتب عنه الإسلام اقتضاءً. والأمر في هذا المقام كمن يشير إلى الماء ثم يصفه بأنه غير طاهر وغير مطهر6، فلا يصح فيه إلا أن يقال: ماء نجس، وهو غير الماء عادة وتعبدا، فأن تقول الماء وكفى تكون قد قصدت الطاهر المطهر، وكذلك الناس. ولذلك نجد في قوله عز وجل: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) البقرة:213، كمال المعنى في الناس، ومن ثم وصفهم بأنهم: (أُمَّةً وَاحِدَةً) لما كانوا عليه من أصل التوحيد ابتداءً وقبل طروء الكفر والشرك منهم انتهاءً. وفي الآية -المنطلق- إخبار منه تعالى “بما سيقوله السفهاء من المنافقين واليهود والمشركين قبل أن يقولوه، وفائدته أولا: تقرير النبوة المحمدية، إذ هذا إخبار بالغيب، فكان كما أخبر، وثانيا: توطين نفس الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به حتى لا يضرهم عند سماعه من السفهاء، لأن مفاجأة المكروه أليمة شديدة، فإذا ذهبت المفاجأة هان الأمر”7. فإذن لما قالوا ما قالوا وصفهم الله عز وجل بالسفاهة الدالة على نقصان واضطراب إنسانيتهم، ومنه لما لم تطرأ هذه السفاهة في الآية قبل كانوا أمة واحدة على التوحيد، وكذلك كانوا (الناس) حقيقة .
3- ومن الناس -بعدما تقرر المعنى- من يتوهم سعادة أناه في نهج منهج من أمِرنا بمخالفتهم وعدم التجَحُّر من بعدهم وعلى منوالهم، وفي وصف النبي عليه الصلاة والسلام مسلكهم بجحر الضب ما لا يحصى من البيان والإعجاز، إذ القضية هاهنا أن جحر الضب فيه من اللّف والدوران الشيء الكثير، حتي إن الباحث عن آخره يتيه في مسالكه، فكذلك أتباعهم يهوون بـ(مِنَ النَّاسِ) إلى حيث لا آخر ولا نهاية وكذلك إلى حيث لا بداية وإن رُغبت، وإنما فقط كجحر هذا الحيوان في لفه ودورانه. وتصويره في واقعنا تجده تارة بدعوى حقوق الناس وتارة بدعوى الحريات العامة وتارة بدعوى الانفتاح وتارة لأنهم لا يشعرون.
4- ومن الناس من يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف ويخرج غيره من النور إلى الظلمات ويدعو إلى طاغوتيته، هو كالذي حاجّ إبراهيم في ربه، أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها، فكان من الله سبحانه أن قال (وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) البقرة:258، فانقطعت عنهم الهداية لما حصل منهم من الظلم إما بالأمر بالشرك والكفر والإلحاد والزندقة والعَلمانية والشذوذ والدعارة والفساد.. وإما بالنهي عن التوحيد والعبادة والسنة والشريعة والعفة والأخلاق، فكان أن نفى الله تعالى -في بداية سورة البقرة- عن أمثالهم العلم والشعور والإيمان، ولذلك كانوا حقيقة من (الناس).
ــــــــــــــــــــــ
1- معجم مفردات ألفاظ القرآن، مادة ( ن. و. س).
2- فتح القدير، (ج1.ص:121).
3- تفسير القرآن العظيم (ج1، ص:63) (بتصرف).
4- فتح القدير، (ج1.ص:122).
5- معجم مفردات ألفاظ القرآن، مادة (س.ف.ه).
6- مع اختلاف فقهي بسيط في أقسام المياه.
7- أيسر التفاسير، (ج1،هامش ص:83).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *