سطور مظلمة من تاريخ القذافي ذ. إبراهيم أبوالكرم

 (الشعب يريد إسقاط النظام) جملة بسيطة بليغة، كما أنها مخيفة مفزعة، تطوف على الشعوب طوفان المرض المعدي، أينما حطت رحالها إلا وخيف على نظام ذلك المكان من الرحيل. ثار رجل فثارت لأجله شعوب، وتزلزت الكراسي بأصحابها، وفي هذه الأيام يفيض شعب آخر ويثور، لكن هذه المرة ليس على شخص عادي بل على رئيس ثائر، ظل ضاغطا بكرسيه على الشعب، أسس أركانه على الدماء، وهاهو يختتم حكمه بذلك كما بدأ، محاولا التشبث به.

معمر محمد القذافي (1361هـ – ، 1942م- ). رئيس الجماهيرية العربية الليبية الذي فقد السيطرة في هذه الأيام على معظم بلده. ولد في بلدة سرت. وكانت أسرته تعمل في الزراعة وتربية المواشي فترعرع في ظل ظروف قاسية. تخرج من الكلية الحربية عام 1965م برتبة ملازم ثم أوفد في بعثة إلى بريطانيا حيث تخرج في الأكاديمية الملكية العسكرية في سانت هيرست. قاد ثورة الفاتح من (سبتمبر) 1969م التي أطاحت بنظام الملك الليبي إدريس السنوسي.
أطمع القذافي الشعب يوم أن وصل إلى الحكم، وأبهر الأعين بتصريحاته، إذ أعلن في خطاب له في ذلك الوقت أمام ما يسمى بمؤتمر الشعب العربي أنه سيداهم مع ذوي المسجونين السجن الموجود في طرابلس وسيهدمه ويفرج عن المعتقلين، فوفى العقيد بما وعد به، كما أعلن في المؤتمر نفسه أن جميع المواطنين العرب يمكنهم اعتبارا من ذلك الوقت الدخول بحرية ومن دون أي قيد أو شرط إلى ليبيا. وهدم سجن من سجون طرابلس. ثم أعلن عن محاولة لإقامة النظام الإسلامي في بلاده.
ثم ما فتئ أن ظهرت الشخصية الحقيقية للعقيد، والتي تقطر ظلما واستبدادا، فقد قتل آلاف الدعاة وأئمة المساجد، وحارب الإسلاميين، ونكل بهم أيما تنكيل، وأجبر الطالبات ودون إذن أهلهن على الخروج إلى التجنيد المسلح والاختلاط بالرجال.
وكيف نصدق أن هذا النظام سوف يفتح صدره للعرب وهو الذي قطع الرواتب والمساعدات عن شباب ليبيا الذين يدرسون في الخارج مما جعل نفراً منهم يرتمون هنا وهناك بحثاً عن لقمة العيش.

وحينما نقترب من شخصية القذافي أكثر نجده شخصا مزاجيا غريبا، لا يستقر على حال، يخبط في الآراء خبط عشواء، فمرة يلغي السُنة من التشريع، ثم يتراجع بعد اجتماعه مع وفد من الرابطة الإسلامية، تقترب آراؤه أحيانا من القومية العلمانية ثم نراه يقف مع إيران ضد العراق، ثم نراه يمجد الاشتراكية الشيوعية، لكن الذي نعلمه أن المعسكر الشيوعي بنفسه لا يثق بانتماء القذافي، ويمجد مرة أخرى العبيديين، ثم إنه خطب الناس مرة في عيد الفطر فقال إنه سيعلن عن قيام الخلافة الفاطمية في ليبيا، وفي كل مرة يطلع علينا بلبوس غريب، وفلسفة شخصية شاذة.
إن الشعب الليبي لا شك هو ضحية حماقات القذافي وتقلباته، وقد صودرت حريات هذا الشعب منذ نزا القذافي على الحكم في ليبيا، وبدد ثروته، وهجر كثير من أبنائه بحثاً عن الحرية لدينهم، أو التماساً لفرص حياة مستقرة بعيداً عن المسرح الجنوني الذي يديره القذافي كل يوم منذ ثلاث، وقد قال أحد المواطنين الليبيين يصف الحال الذي عاشته البلاد: (إن الآخرين لا يتصورون مدى معاناتنا، إننا شعب يعيش في عذاب يومي منظم من الصباح حتى المساء)، وهذه الكلمة المعبرة تكاد تختصر تاريخ القذافي ومفاجآته الدائمة.
أصيب بعقدة العظمة والكبرياء، فسمى جمهوريته بخمسة أسماء، وغيّر التاريخ الهجري والميلادي، وغير أسماء الشهور، ولما قلّ المال بيده جعل الشهر خمسة وأربعين يوماً، ورأى نفسه إماماً للمسلمين، وعميد الحكام العرب، وملك ملوك إفريقيا، وأيضاً فيلسوفاً للنظرية العالمية الثالثة، وطبع ملايين النسخ من الكتاب الأخضر، وأنشأ معاهد لدراسته، وجعله ثقافة للشعب الليبي، وبدد الملايين من الدولارات في أفريقيا وغيرها حتى يدرس الناس أفكاره، وكتب الكتاب على الصخور، وأمر بدفنه في الصحارى، حتى إذا جاءت قرون متأخرة وجدت هذا الفكر الغريب محفوظاً لها.
ويكفي نموذجاً لذلك أنه يمنع نشر أسماء الوزراء وممثلي اللجان الشعبية ولاعبي كرة القدم حتى لا يشتهروا فينافسوه الشهرة. وشرح مرة الديموقراطية فأبدع في القول ومثل الفعل أحسن تمثيل، فقال: أصل الديموقراطية: ديموكراسي، أي ديموا على الكراسي، وهو الشيء الذي قام به القذافي. أما كتابه الأخضر فقد أعطاه من القداسة والعظمة، ما لا يعطى لقانون بشري، خاصة وواضعه يعتريه ما يعتريه من العقد النفسية، والتقلبات المزاجية، والتاريخ يشهد أن الفلسفات والشرائع الأرضية تشهد تهافتها وتساقطها حيناً بعد حين، وأن ما يبقيها ويجعل لها بعض القبول عند الناس هو ما تحمله من بقية وحي، أوأثارة من علم، أو شيء من حكمة، فإن ما أبقى فكرة سلطة الشعب والكتاب الأخضر ما هو إلا الإرهاب والقمع والقهر.
ومن غرائبه أنه اقترح أن يعيش اليهود والفلسطينيون في دولة تسمى إسراطين، كما زعم أن الحرم المكي منطقة أممية، ينبغي ألا يحرم من الطواف يهودي ولا نصراني.
إلى غير ذلك من حماقات هذا الرجل، المعروفة المشهورة، وما خفي أعظم.
أما الغرب فمعروف بسياسة أكل الخروف مع الذئب والبكاء مع الراعي، فليس لها صديق سرمدي، فللحكام صداقة الساعة التي هم فيها، وهذا درس لكل الحكام، فالغرب غرب لا دين له، ولا أخلاق، إنما هي المصلحة المحضة.
وقد كانت مجلة البيان في أعداد سابقة في بداية التسعينات، نشرت مقالات كثيرة عن القذافي وحكمه وشعبه، أختم من ذلك بهذا الفقرة:
لله ما أعجب هذه الشعوب المسلمة المسلوبة كل حق إلا حق توزيع التملقات لكل قادم ومستبد، يصب المتسلطون العذاب على الرؤوس فما تحير جواباً، وإذا خلت هذه الجموع إلى نفسها عاذت بالبكاء على حظها العاثر وحزنها المقيم، تتهامس وتتخافت بالإشارة إلى اللص الأول مرةً، وإلى الثاني مرة، ولكن الهوان أوهى العظام، وقعد بالهمم وهلعت النفوس فما تطيق حراكاً ففي داخل البلدان همس وشكوى وزفرات خافتة ويد مكبلة أو يتوهم صاحبها أنها مكبلة، وفي الخارج ألسنة طويلة وكلام كثير.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *