فيا ليت لمثل هذه الرخويات عرق حياء ينبض لكان منعهم الجذع الكبير في أعينهم عن تحسس قذاة دقيقة متناهية الصغر في أعين غيرهم، ولكنهم للأسف جاوزوا مرحلة الرمد إلى نكسة العمي، وتطور فيهم الزكام إلى عضال الجذام..
كثيرا ما يعاب على المنتسبين إلى المنهج الإسلامي الصحيح كونهم يعانون من غلو في قضية استشراف الغلبة؛ والمبالغة في توطين وتوطيد ضجة حتمية النصرة والظهور.
والمعيب ليس في تأثير قضية الإيمان بحتمية النصرة وأنها -وكما هو الزعم- ورثت إخلادا إلى ما يطويه الغيب من مثل نزول عيسى عليه السلام؛ وظهور المهدي المنتظر، وربما ورثت تثاقلا ووهنا وتخاذلا في إمكانية استثمار سبل التعايش والتساكن.. إلى ما نصوره نحن المسلمين دائما وأبدا أنه عدو متربص، وأنه خصم مناوئ، فتضيع منا فرص ذهبية كان بإمكانها أن تجعلنا في واجهة الركب مع القوم الذين غزوا الفضاء، وشطروا الذرة، وبددوا الظلمة، وطوعوا الطبيعة، فيما يعود عليهم بالمصلحة والمنفعة.
بل الزعم في هذا النبز مبناه على غياب الدليل الحسي الذي تطمئن إليه هذه القلوب المريضة والعقول الموبوءة التي غرها في دينها ما نحن عليه اليوم من ذلة وصغار، ومع هذا التغرير نهمس في آذان أصحاب هذا الزعم أننا معشر المسلمين ومهما يبدو فينا أنه اندحار وتقهقر وتأخر، فإن تجليات النصرة تبقى حالتها منفكة عن أحوالنا، وهي حالة نجملها في كوننا ننتسب إلى دين مصون المنابع محفوظ المصادر، وإننا بدلالة اللازم لا يمكن أن نفقه من معنى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} غير أن هذا من أكبر تجليات انتصار الحق على الباطل مع تأبيد مشروع هذه الغلبة وهذا النصر.
ولنا في قرون خلت الذخيرة المحسوسة التي تبعث على الراحة والاطمئنان العقدي على مستقبلنا كأمة، وهذا التاريخ بيننا نلج بوابته لنسأل متى أفلح خصم في أن يدنس رونق هذا الدين بشائبة، أو أن تغير مجراه وصراطه المرسوم من رب العالمين المتعبد به من سيد المرسلين عواصفُ الإلحاد، وما أكثر ما هبت وما أشقى هبوبها.
وهذا التاريخ بيننا نتلمس محبور سطوره وأطلال أحداثه لنجيب عن الزعم والفرية التي تنبز ديننا أنه ملة ساعد إعمال السيف في رقاب البشرية مشروع انتشاره وآمال امتداده عبر ربوع الكون، ونقول أن محمد عليه الصلاة والسلام لم يحمل سيفا بين الناس أول ما ظهر؛ بل خاض في هامش الإقناع وبديع التبليغ بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وتحمل أذى قريب يتجهمه وبعيد يريد أن يتملك أمره.
إن المأثور التراثي من سيرته العطرة في هذا الباب يملأ القلب احتراما وإجلالا، وهكذا وسواء اقتنعت السخائم المناوئة بالتسليم والطرح الذي سقناه وتعبدنا به ربنا جل في علاه أم لم تقتنع وبقيت متمسكة بخرص الظنون ونخالة الأفكار؛ فإن الطبائع السليمة والفطر السوية مهما كانت ملتها ومهما كانت نحلتها لتشهد ضد ذاك الخرص وتلك النخالة بأنها ولدت سفاحا؛ لا تستند إلى منطق ولا تعضدها حجة؛ ولا يمكن في يوم من أيام دهرها أن تجد لها في باحات العقل البشري المجرد موقع إقناع ومساحة اطمئنان.
وأنى لها ذلك ومحمد عليه الصلاة والسلام ما ذهب إلى الرفيق الأعلى إلا بعد بشرى يقين مفادها أن صحائف رسالته ستبلغ بعده زوايا الأرض وتغزو مناكبها وأن الواحد من أمته يمشي في فلاة فضاء نبوته لا يخشى أحدا اللهم الذئب على غنمه، عاش عليه الصلاة والسلام صادقا في دعوته أميننا في تبليغه مذكرا بوعد ربه ووعيده؛ ولم يكن في يوم مكرها لأحد كان من كان على اعتناق عرى هذا الدين فقد كانت مهمته عليه الصلاة والسلام عرض ومطارحة وبيان للرشد؛ وفضح للغي ولا إكراه في الدين بعد هذا.
ورحل من هذه الدنيا؛ التي ما شبع من خبزها وبقلها وفومها وعدسها؛ رحل وهو لا يحمل بين ثنايا خاتم النبوة لوما من ربه أو تسخطا من معبوده، جزاه الله عنا وعن البشرية خير الجزاء، فكم يا ترى خلف صارم محمد من تركة هلاك من رؤوس أرباب الصدود والعناد قبل أن يتوج ربُه مسيرَتَه المباركة بقوله سبحانه بعد دخول الناس في هذا الدين أفواجا: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} مؤشرا على كمال هذا الدين وتمام نعمته والترضي به دينا للعالمين.
وبعد هذا الرضا وهذا السمو والصلاح يأتي العفيف الأخضر مهرولا في مسعى والده وحبيبه الاستغراب، والمرء يومئذ في الكبكبة مع من أحب ليقول: “لا يستطيع الإسلام، إلا إذا أراد الانتحار استثناء نفسه من هذا المسار الكوني زاعما أنه غير قابل للذوبان في الديمقراطية. ذوبان الإسلام في الديمقراطية ممكن بالقوة”.
ثم يقفي قائلا: “من دون إصلاح الإسلام لن نصل إلى العلمانية أي فصل الديني عن السياسي ومن دون العلمانية الوحيدة التي تعترف للمرأة وغير المسلم بحقوق المواطنة الكامل لن نصل إلى الديمقراطية” انتهى خرصه من جريدة “الأحداث” ع:4445.
فيا ليت لمثل هذه الرخويات عرق حياء ينبض لكان منعهم الجذع الكبير في أعينهم عن تحسس قذاة دقيقة متناهية الصغر في أعين غيرهم، ولكنهم للأسف جاوزوا مرحلة الرمد إلى نكسة العمي، وتطور فيهم الزكام إلى عضال الجذام، فيا لعظمة ديننا حينما ينبض القرآن بحقيقة مفاذها {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} وحقيقة {أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} وحقيقة {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، ويا للدناءة والسفالة عندما ينضح المقال والحال بفضيحة الإكراه على العلمانية وفضيحة سوق الناس إلى المفضول القميئ بالعصا دون الجزرة..
فعذرا عذرا فقد كان التلقيح فاسد الذخيرة مدخون التطعيم غيَّر الطبائع الأصيلة وحولها إلى تطبعات مستهجنة، تحول بفعلها معشر القوم إلى قطيع حوافره عابثة بالذوق الرفيع مفسدة للوعي النجيع، وكما أنه في عالم الحيوان يعد البغل نشازا بين معشر أخواله وأعمامه، قد تأنف من طباعه الخيول وتميل عن مساكنته ومهادنته الحمير، فكذلك هؤلاء الذين نزت على أخلاقهم ثقافة الاستغراب، وما أكثر البغال كناية في ميدان القلم، والتبغل في محبور الأعمدة الصحفية الموجهة توجيها مخلا بالأخلاق ضاربا بالآداب العامة هاتكا لحرمة الحياء الذي هو شعبة من شعب الإيمان.
فلا غرابة إذا قامت لمثل هؤلاء قومة وقد كادت.. أن يصير الإسلام اليوم معرة يتبرء منه القريب ويتحامل عليه الغريب وتتوحد الآمال في قحة ودناءة رجاء أن يطوى لواءه في أكفان هلاكه ثم يشيع في صمت إلى جبانة الوأد الحداثي، ويحصل بعد إطعام آل جعفر المكلومين في فقيدهم راحة العالم المعاصر من مكرهة فرائضه ومشقة نوافله، ويخلو الجو بعد موت وازعه في النفوس المتمردة إلى ولادة المشاريع الحداثية التي قوامها إباحة الدعارة والخمر والميسر والاستقسام بالأزلام وسائر المناكر التي كان يجثم تحريمها على الصدور المنيبة لسبل الشيطان الصادة عن ذكر الرحمن.
وفي مثل هذا المناخ المريض يسهل أن يجيئنا المستعمر بصفته تاجرا لا فاجرا، ويقتحم عقبة الموقر والمقرر بكونه ناصبا لا غصبا، وناصحا لا كاسحا، وموجها لا مدلسا، فلا تكاد تمر ردهة من الزمن قصيرة حتى تسمع عن موت ذلك الرجل المريض الذي عاش عالة على موائد غيره في التطبيب والترتيب بل في الملبس والمسكن والمشرب والمركب، فتتعالى الصيحات متوعدة ومنذرة وداعية إلى ركوب قارب النجاة؛ قارب العلمانية والحداثة فقد أهلك أفيون الشعوب الحرث والنسل.
فيا ليث شعري متى جرب الإسلام فعربد وأفسد، ومتى ساد حتى يحمل أوزار غيره من التجارب الساقطة والمغامرات النازقة، تجارب الذين ظلوا يأكلون ويتنفسون وينطقون ويتنعمون من خيره سبحانه، لكنهم كانوا دوما وأبدا معاهدين على أن ينيبوا إلى غيره من الأنداد.
فكم أنت كريم يا ربي إذا أطعمتنا من جوع وآمنتنا من خوف، وكم أنت عادل إذا أذقتنا لباس الجوع والخوف نظير صنيعة الجحود والصدود، نسأل الله العفو والمعافاة.