منذ سنين وأنا أتابع التحليلات لخبراء ومختصين وحتى متطفلين، في مختلف الميادين والمجالات، وذلك رغبة مني في تلمس خيوط توصلني إلى فضاء الأمل الفسيح، وأملا في غد مشرق لأمة توالت نكباتها وغارت جراحها، وتكالب عليها الأعداء بكل حيوية وأريحية، وأنا أقرأ التحليلات وأتأمل الرؤى الاستشرافية، وفي ثناياها أبحث عن المصداقية، عن أي ضوء ولو خافت، عن أي فكرة تبعث في القلب سرورا وفي النفس انشراحا.
فعلا قرأت كما قرأ الجميع ما جعلنا نحلم ونحن أيقاظا بغد قريب مشرق، لكن وبعد كل هذه السنين لم تزدد شمس الأمة إلا مغيبا. أكيد أنه ما بعد المغيب إلا الشروق.
قرأنا عن نهاية دول وصعود أخرى، قرأنا عن نهاية عصر التسلط وبداية عصر الانعتاق، قرأنا عن بزوغ فجر أمة ومغيب شمس أمة أخرى، قرأنا عن نهاية عصر انحطاط أمة الإسلام وبداية نهضتها، قرأنا عن بداية وحدة شعوبها ونهاية تشرذمها…ولعلنا محللين وقراء كان الاندفاع والحماسة هي من تسوق الجميع.
كان للمحللين والمستشرفين نصيب من موافقة الحقيقة لكن على أمد قصير جدا، سرعان ما ينجلي غبار الوهم ليكشف عن حقيقة لم يرها أحد، ولا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيها الكواليس، وتحكم التماسيح والعفاريت! ولم يعد أحد يعرف أين تنتهي خيوط التحكم؛ ولا أين تطبخ القرارات؟؟؟
وصار المحللون والخبراء كالمنجمين يصدق فهم المثل “كذب المحللون ولو صدقوا”. إذ معطيات التحليل يعلوها الضباب الكثيف، من التصريحات والتصريحات المضادة، أحيانا من المسؤول نفسه، وأحيانا أخرى من شركائه في المسؤولية أو شركائه في الحزب أو الهيئة… فتغيب الحقيقة وسط ركام المراوغة والكذب والتدليس.
فلم يعد لعاقل واع أن ينساق وراء باعة الكلام ومحترفي التنجيم السياسي والاقتصادي والأمني…
انتهى زمن التحليل.
انتهى فالله المدبر..
انتهى لأننا في الزمن الذي قال فيه الصادق المصدوق: «سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، وينطق فيها الرويبضة» قالوا: “من الرويبضه يا رسول الله؟” قال: “التافه يتكلم في أمر العامة”.رواه الحاكم.
انتهى فأحداث الزمان اليوم صارت تخضع لسيرورة اقتضتها الإرادة الإلهية، ليس لأنها لم تكن تخضع من قبل ولكنه تقارب الزمان ونهاية العالم. وأحداث أخبر بها الصادق المصدوق.
فلا غرابة أن يصبح الناس على أحداث تخلط الأوراق وتقلب الموازين وتجعل اللبيب حيران، وتهز كبرياء الذين يخططون خلف الكواليس. وخصوصا إذا انقلب السحر على الساحر وخرجت الأمور عن السيطرة كما خططوا له، وكان تدبيرهم تدميرهم.
لمن أراد اليوم أن يعرف حقائق الأحداث، وأن يكون ذا بصر نافذ يرى خلف السور، ويقرأ تحت السطور، ويفهم الوقائع وسياقاتها واتجاهات ومآلاتها، فيقرأ أحاديث الفتن وليكن بها على علم وفهم، فقط ليفهم دون تجاوز الحد أو طغيان التوظيف؛ “وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ”. نور التوفيق والسداد في قراءة الواقع قراءة شرعية مستمدة من الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ذلك النور الذي فتح الله به على أهل خاصته فكانت لهم قراءات واستشرافات كأنهم يقرأون في صحائف الغيب. ولا أتكلم عن الكشف الصوفي فتلك خرافات لا تصمد أمام حقائق الواقع ودلائل الشرع.
إن من رجع إلى الوحي يرى بنوره ويسترشد بتوجيهاته، هو من يستطيع أن يمتلك خطة العمل ومشروع النجاح، لأن الوحي لا يحمل على الخمول وترك الفعل، والاكتفاء بدور المتفرج على توالي الأحداث على أساس أنها قدر واقع ما له من دافع، وأن ذلك كان في الكتاب مسطورا. لكن وأنت تعرف من خلاله حقيقة ما يحدث وما سيقع، ولم؟ وكيف؟ فهو يبين لك ما ينبغي أن تفعل وكيف؟ ولم؟
فمن سلك هذا المسلك نجا وسلم، ومن اتبع المنجمين ضل وهلك.
والله أعلى وأعلم.