التكريم الإلهي للإنسان من الخلق إلى الإسلام أبو الفضل حسن فاضلي

عجيب! عجيب أمر هذا الإنسان الذي لا يأنس إلا بمثله والذي عُهد إليه فنسي، عجيب أمر هذا الإنسان بالنظر إلى صغره وضعفه، وبالنظر إلى مركزيته ومكانته، إذ هو سيد المخلوقات وإمامهم في مسجد الكون، وهو المكرّم والمفضّل عليهم في مراحل ثلاث:
الأولى التكريم بالخلق والإيجاد، والثانية التكريم بتسخير المخلوقات لخدمته، والثالثة التكريم بالفطرة والإسلام.
والإنسان في أصله اللغوي من “الإنس خلاف الجن، والإنس خلاف النفور، والإنسي منسوب إلى الإنس، يقال ذلك لمن كثر أنسه، ولكل ما يؤنس به(…) والإنسان: قيل سمي بذلك لأنه خلق خلقة لا قوام له إلا بأنس بعضهم ببعض. ولهذا قيل: الإنسان مدني بالطبع، من حيث لا قوام لبعضهم إلا ببعض، ولا يمكن أن يقوم بجميع أسبابه، 1وقيل سمي بذلك لأنه يأنس بكل ما يألفه، وقيل هو إفعلان، وأصله إنسيان، سمي بذلك لأنه عُهد إليه فنسي” .
ومع كونه لا يقوم إلا بمثل جنسه، وأُمر فنسي إلا أن التكريم حاصل له، فقال عز وجل: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) 2؛ وذلك لمّا أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لهذا المخلوق، رفض إبليس -لعنة الله عليه- هذا التكريم، فكان قوله كما في الآية قبل.
وفي سياق صريح لهذا التفضيل قال تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)3 . تفضيلا له -أي الإنسان- بتسخير المراكب والمستلذات من اللحوم والحبوب والفواكه وغير ذلك له.
فمجمل معاني الإكرام والتكريم أن “يوصل إلى الإنسان إكرامه؛ أي نفع لا يلحقه فيه غضاضة، وأن يجعل ما يوصل إليه شيئا كريما، أي شريفا” 4.ففي الآية الأولى حصل له التشريف بأمر الملائكة وإبليس بالسجود له، فكان من هذا الأخير ما كان من الاستكبار والامتناع، وفي الثانية كان التشريف بتمكين المراكب له وتيسير المطعومات والمستلذات. وبيان ذلك كما يلي:
– التكريم بالخلق والإيجاد: ومعناه أن إخراج الإنسان من العدم إلى الوجود فيه تشريف وتكريم، من حيث كونه سيتولى مهمة الاستخلاف في الأرض مع التكليف بالتوحيد والإيمان، حتى إذا اجتاز ذلك ووفِّق في عبور الصراط حصل على ثمرة التكريم والتشريف والتكليف والاستخلاف، وهي ثمرة مقصود أن يصل إليها من تكليفه  5 هذا، ولذلك قال عز وجل في بيان علة الخلق (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)  .
فأن يكون الابتلاء بالأمر إلى أحسن العمل هو عين التكريم والتشريف، ولا يقدر على ذلك إلا إذا كان في أحسن تقويم. فعندئذ يصبح الإنسان بمثل هذه العبادة وهذا
التفكر إنسانا حقا “فيصير بيمن الإيمان وبركته لائقا للأمانة الكبرى وخليفة أمينا على الأرض”6   .
فإذن إذا كان إخراج هذا الإنسان من العدم إلى الوجود تكريم وفضل، فكذلك إرجاعه ثانيا من الوجود إلى العدم فضل ونعمة، بعد أدائه للأمانة المنوطة به بنجاح. ومن ثم يكون الموت بهذا المعنى -لمن أدركه- فضلا ونعمة، وأن “المجيء إلى الدنيا كان لأداء مهمة معينة وأداء خدمة فيها كالخدمة العسكرية، وأن فراقها يعني التسريح من 7   هذه الخدمة، وأنه ولادة ثانية (ليستيقظ) في حياة أبدية لا تزول ولا تنتهي” .
لذا كان الإحساس بهذا الفضل وعيش هذا التكريم يدفعه إلى العدم دفعا أو يشوقه إلى أصله العدم، لأنه متحقق من ثمرة التكليف وغاية الاستخلاف -بعد النجاح فيها- وهي الجنة حيث الحياة الأبدية.
والإنسان هذا بمراحله المترابطة والمتدافعة تلك وبأطواره المفككة والمتداخلة “ليس مخلوقا عاديا وحسب، ولا هو حتى مخلوق أرضي وحسب، بل هو أبعد من ذلك وأعظم، إنه مخلوق كوني؛ أي إن الماهية الوجودية للإنسان هي ماهية كونية كبرى، بمعنى أن فهم هذا الكائن لا يمكن تناوله ولا استيعابه بحصره في مركز إقامته:     8 الأرض، وإنما الواجب ربط وجوده بوجود الكون كله! ذلك أن أول باب من أبواب الدخول إلى الماهية الإنسانية هي باب العلة الخلقية أو الوجودية ” .
والعلة هذه قد نُص عليها باللفظ والمعنى في قوله تبارك وتعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) 9  . فكانت الآية هاته بما فيها من حصر دالة على مقصد خلق الإنسان وهو تحقيق العبودية لله تعالى، ومن هنا كان خلق الإنسان وإيجاده وإخراجه من العدم فيه معنى التكريم والتشريف، إذ الباقي في أصله/العدم حُرم من التكليف ومن الاستخلافية بمعناها التعبدي الإيماني، ومن ثم كان المخلوق الإنسي مناط الإيمان والعبادة، ولاشك أن ذلك هو التكريم والتشريف بلغة التكليف.
يتبع..

مفردات ألفاظ القرآن, الراغب الأصفهاني, مادة (أ ن س) -1-
2 – الإسراء:62
3 – الإسراء:70
4-  مفردات ألفاظ القرآن، مادة: (ك ر م)
5 –  هود:7
6-  رسائل النور (الكلمات)، بديع الزمن النورسي، ص:138
7-  ترانيم روح وأشجان قلب، فتح الله كولن، ص:144
8-  مفاتح النور في مفاهيم رسائل النور، فريد الأنصاري، ص:101
9- الذاريات:56.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *