قال ابن تيمية في الدرء:
(طرق السلف والأئمة الموافقة للطرق التي دل القران عليها وأرشد إليها هي أكمل الطرق وأصحها؛ وأكثر الناس صوابا في العقليات أقربهم إليهم؛ كما أن أكثرهم صوابا في السمعيات أقربهم إليهم؛ إذ العقل الصريح لا يخالف السمع الصحيح بل يصدقه ويوافقه كما قال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقّ})1.
وقال في شرح الأصفهانية: (الطرق التي أظهروها من العقليات قد دلَّ عليها القرآن، وأرشد إليها كما دل القرآن على الطرق العقلية التي يثبت بها سائر قواعد العقائد المسماة بأصول الدين) 2.
وعليها اعتمد نظار المدرسة السلفية في جدالهم ومحاوراتهم ومناظراتهم كالإمام أحمد وغيره، على رأسهم ابن تيمية نفسه، فإنه جعل المنطق القرآني وقوالب حججه حاكمة على المنطق الأرسطوطاليسي فانتقد الثاني وانتصر للأول..!
فقال رحمه الله ردا على اتهام خصومهم إياهم بعدم استعمال الحجج العقلية: (من العجب أن أهل الكلام يزعمون أن أهل الحديث والسنة أهل تقليد ليسوا أهل نظر واستدلال؛ وأنهم ينكرون حجة العقل. وربما حكي إنكار النظر عن بعض أئمة السنة وهذا مما ينكرونه عليهم. فيقال لهم: ليس هذا بحق. فإن أهل السنة والحديث لا ينكرون ما جاء به القرآن، هذا أصل متفق عليه بينهم. والله قد أمر بالنظر والاعتبار والتفكر والتدبر في غير آية، ولا يعرف عن أحد من سلف الأمة ولا أئمة السنة وعلمائها أنه أنكر ذلك؛ بل كلهم متفقون على الأمر بما جاءت به الشريعة من النظر والتفكر والاعتبار والتدبر وغير ذلك ولكن وقع اشتراك في لفظ “النظر والاستدلال” ولفظ “الكلام” فإنهم أنكروا ما ابتدعه المتكلمون من باطل نظرهم وكلامهم واستدلالهم؛ فاعتقدوا أن إنكار هذا مستلزم لإنكار جنس النظر والاستدلال) 3.
وقد عرض هذا عرضا مطولا مسهبا مفصلا الدكتور علي سامي النشار، فبين مقاصد ابن تيمية رحمه الله من ذلك، وذكر نماذج وأمثلة من الاحتجاجات العقلية القرآنية التي انتصر لمثلها ابن تيمية رحمه الله واستعملها، وخلص إلى أسس علم الجدل القرآني الذي وضعه شيخ الإسلام مستمدا إياه من القرآن نفسه، فقال الدكتور النشار:
(أما عن الطرق العقلية التي وضعها لكي يستخدمها النظار، فلقد رأينا أن كلا منها يقوم على فكرة من أعمق الأفكار المنطقية، فالطريق الأول يعود كما قلنا إلى قانون التلازم والتخلف في الوقوع، والطريق الثاني يعود إلى فهم وتفريق دقيق بين الأسماء المشككة والمتواطئة أو بين المتواطئة العامة والمتواطئة الخاصة، وبهذا حقق ابن تيمية فكرته القائلة بأن للمسلمين طرقا خاصة في البحث، مستمدة من القرآن وقائمة عليه وتستند على عبقرية اللغة العربية) 4.
وكذلك أشار إلى مثله الدكتور مصطفى حلمي في كتابه (السلفية والحضارة).
ومن أهم ما لاحظه منظروا الفكر السلفي في القرآن من ذلك الأمثال المضروبة فيه؛ فإنه نوع من القياس العقلي بالجمع بين المتماثلات. قال ابن القيم رحمه الله:
(الأمثال كلها أقيسة عقلية ينبه -الله- بها عباده، ويعلم بها حكم الممثل من الممثل به، وقد اشتمل القرآن على بضعة وأربعين مثالا تتضمن تشبيه الشيء بنظريه والتسوية بينهما في الحكم، قال تعالى: [وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُون] (العنكبوت:43) .5
وجعل ابن تيمية معرفة التماثل والاختلاف (قياس الطرد وقياس العكس) من أعظم صفات العقل 6.
– سبب امتناع منظري المدرسة السلفية عن الحجاج العقلي في مسائل العقيدة أول الأمر؟
بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام وجد الصحابة أنفسهم على بيضاء نقية ليلها كنهارها، ولم يجرؤ حينها أحد على أن يزيغ عنها زيغا فكريا واضحا حتى أواخر زمنهم في عهد عبد الله بن عمر، حين ظهر أوائل القدرية بالبصرة، والذين علم ابن عمر بظهورهم فكان رده أن تبرأ منهم.. واحتج على ما زعموه من نفي علم الله تعالى السابق للخلق بحديث جبريل الطويل. فكان فعله ذاك منهجا لأهل السنة بعده، يحتجون بالوحي.. ويمسكون عن غيرهما متبرئين من مخالفيه.
فقد حكى أبو العرب التميمي عن ابن فروخ أنه كتب إلى مالك بن أنس:
“إن بلدنا كثير البدع -وأنه ألف كلاما في الرد عليهم، فكتب إليه مالك يقول له:
إن ظننت ذلك بنفسك خفت أن تزل فتهلك، لا يرد عليهم إلا من كان ضابطا عارفا بما يقول لهم، لا يقدرون أن يعرجوا عليه؛ فهذا لا بأس به، وأما غير ذلك فإني أخاف أن يكلمهم فيخطئ فيمضوا على خطئه، أو يظفروا منه بشيء فيطغوا ويزدادوا تماديا على ذلك”7.
وعن الهيثم بن جميل قال: “قلت لمالك: يا أبا عبد الله، الرجل يكون عالما بالسنن يجادل عنها؟ قال: لا، ولكن يخبر بالسنة، فإن قبلت منه وإلا سكت”8 .
وعن العباس بن غالب الوراق قال: قلت لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، أكون في المجلس ليس فيه من يعرف السنة غيري، فيتكلم متكلم مبتدع، أرد عليه؟ قال:
“لا تنصب نفسك لهذا، أخبر بالسنة ولا تخاصم” 9.
هكذا كان موقف الأئمة من جمهور البدع والمقالات المخالفة للعقيدة الأولى، ينهون عن الخوض في ذلك مخافة استغلال المخالف للزلة، فكانوا يتجنبون الخصام ابتداء.
ومع تطور هذه المقالات وتشعبها وتفنن أصحابها في عرضها، ظهر للأئمة أنه ما من بد للرد عليهم بطريقة أخرى زيادة على الرد النصي، فانصرف نظارهم وكبراؤهم إلى خوض معارك جدلية وإشهار رايات المناظرة في وجوه مخالفيهم، واستعمال الحجج العقلية في حواراتهم.
لم يكن العقل غائبا عند أئمة السنة الأوائل حين ردهم النصي على مخالفيهم فإنهم أصحاب قرآن وسنة، وفيهما من المناهج الجدلية والوسائل الحجاجية الشيء الكثير.
ويلاحَظ ذلك في ردود نظارهم من الإمام أحمد إلى ابن تيمية رحم الله الجميع.
—————————
1- شرح الأصفهانية ص:105.
2- المصدر نفسه ص:96.
3- نقض المنطق ص:47.
4- مناهج البحث عند مفكري الإسلام (ص219/دار المعارف).
5- إعلام الموقعين 1/131.
6- الرد على المنطقيين ص:371.
7- طبقات علماء إفريقية .ص:110.
8- الآداب الشرعية لابن مفلح 1/303 والرد على من أنكر الصوت والحرف ص:235.
9- الآداب الشرعية لابن مفلح 1/122.