فجوات في التاريخ الأمازيغي أحمد بن محمد الشبي

أقصد بذلك الخلاف العميق والجوهري الذي نشب بين الباحثين والأكاديميين في شأن أصول الأمازيغ وأماكن نشوءهم.
وهو خلاف قديم وجديد، لم يحسم فيه القول حتى الآن، وظل ذلك الأمر محل أخذ ورد، وشد وجذب دون أن تميل فيه الكفة إلى طرف بعينه، ودون أن يقدم أحد برهانا على دعواه.
وبقيت أصول هؤلاء القوم ملتبسة غارقة في الغموض، والذي يبحث لهم عن أصل ومنشإ في أركان الأقاويل هو كمن يبحث عن إبرة في أكوام القش، والذين اقتربوا من ذلك بالبحث أصابهم من الحيرة والاضطراب ما أبان عن استحالة الوصول إلى ما يشبه أو يقارب اليقين في أمرهم.
وقد أعان الباحثون الأمازيغيون المعاصرون على ذلك الغموض، لما أصروا على ربط أصولهم بأول إنسان دب على هذه الأرض، ومحاولتهم المستميتة لإقناع الدنيا كلها أنهم هم السكان المحليون الأصليون، ورفضهم المطلق لكل قول يشكك في ذلك أو يدعي غير ما يزعمون، ذلك أربك العلم كثيرا ونتائجه، ما جعلهم يدخلون في متاهات من الظنون والاحتمالات المتضاربة، فجنوا على أنفسهم جنايات شتى، فلا هم أحسنوا الإصغاء والبحث لمعرفة حقيقتهم، ولا خرجوا من ضيق العنصرية والعرقية ليدخلوا التاريخ من أوسع أبوابه، ويظهروا تحت أضواء شمسه.
وستصبر معي -أيها القارئ الكريم- لأنقل لك بعض تلك الأقوال المتعارضة في أنسابهم- سواء عند القدماء والمعاصرين- لترى مدى الالتباس والغموض الذي ذكرته لك.
فأبوا التاريخ هيرودوت يذكر الأمازيغ ويسميهم الليبيين، ولكن يرجع نسبهم إلى الطرواديين، الذي طردوا من طروادة بعد أن حطمها التحالف الإغريقي ما بين القرنين11-و12قبل الميلاد، في حين يرى بروكوب أن البربر كنعانيون هاجروا من فلسطين.
ونص سالوست ولد ماسينا في كتابه “يوغورطاملك نوميديا” على أن الميد والأرمن والفرس جاءوا مع هيراكليس لتحرير إيبيريا، ولما هلك هرقل طرد المرتزقة من إسبانيا، واختلطوا باللوبيين، وخاصة منهم الميد والأرمن في حين أن الفرس تحولت أشرعتهم بالريح إلى المحيط الأطلسي، فوصلوا جنوب المغرب حيث اتصلوا بالجيتول فتصاهروا معهم..
وقد اشتهر الفرس بالنوميديين ومعناه الرمل بلغتهم، وأطلق على سكان الجزائر. سوس بوابة الصحراء/284.
ونقل العلامة ابن خلدون تضارب المؤرخين العرب في أمرهم فقال 6/120:
وقد اختلف النسابون في ذلك اختلافا كثيرا.
وبحثوا فيه طويلا فقال بعضهم: إنهم من ولد إبراهيم عليه السلام من يقشان ابنه.
وقال آخرون: البربر يمنيون، وقال: أوزاع من اليمن، وقال المسعودي: من غسان وغيرهم تفرقوا عندما كان من سيل العرم، وقيل من لخم وجذام كانت منازلهم بفلسطين وأخرجهم منها بعض ملوك فارس، فلما وصلوا إلى مصر منعتهم ملوك مصر النزول فعبروا النيل وانتشروا في البلاد.
وقال أبو عمر بن عبد البر:ادعت طوائف من البربر أنهم من ولد النعمان بن حمير بن سبأ.. وقال آخرون: إنهم كلهم من قوم جالوت، وذكر آخرون منهم الطبري وغيره أن البربر أخلاط من كنعان والعماليق فلما قتل جالوت تفرقوا في البلاد، وأغزى أفريقش المغرب ونقلهم من سواحل الشام وأسكنهم إفريقية وسماهم بربر.
وقيل: إن البربر من ولد حام بن نوح بن بربر بن تملا بن مازيغ بن كنعان بن حام.
وقال الصولي: هم من ولد بربر بن كسلاحيم بن مسراييم بن حام، وقيل من ولد العمالقة من بربر بن تملا بن مأرب بن قاران بن عمر بن عملاق بن لاود بن أرم بن سام، وعلى هذا القول فهم عمالقة.
وذهب ليون الإفريقي في كتابه “وصف لإفريقيا” إلى أن أصلهم مشترك بين السلالة السامية، والسلالة الهند وأروبية، والتقت السلالتان في المغرب لظروف بيئية وأمنية واجتماعية كما قال عثمان العكاك في كتابه “البربر”.
والتضارب الحاصل لدى القدماء لم تستطع الدراسات المعاصرة والحديثة والتي استعانت بالأنثروبولوجيا والأركولوجيا واللسانيات وغيرها من وسائل المعرفة أن تنهي ذلك الظلام المخيم، ولا أن تبدد تلك الظنون والاحتمالات التي يسقط بعضها بعضا.
وقد نقل صاحب كتاب “البربر في الأندلس” خلاصة ما توصل إليه الغربيون فقال: في ألمانيا نشأ تيار فلسفي ضم جماعة من الباحثين انصبت جهودهم على مسألة تأكيد الأصل الشرقي للبربر ثم قال: فهذاMovers يؤكد أنهم كنعانيون قدموا من فلسطينن واختلطوا بالليبيين، وذهب A.Diyitta إلى أنهم من أصل كنعاني/فينيقي.
أما في فرنسا فقد قامت أبحاث حول تحديد أصولهم، وانطلق عدد من الباحثين من بعض التماثلات الموجودة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط مثل التقاليد الجنائزية (الدولمين) ووجود أشخاص ذوي شعر أشقر وعيون زرق، وبعض النصوص المصرية الضعيفة ليثبتوا أن أصل البربر أوربي.
وذلك هو ما رجحه عثمان العكاك، فذهب إلى أن أصل البربر أوربي استنادا إلى لون الشعر وبعض الآثار الأركولوجية والنقوش الفنية القديمة.
وألف بعض الباحثين المعاصرين كتابا سماه “البربر عرب قدامى” حاول فيه جاهدا ومتحملا إثبات عروبة البربر.
أما عبد الله العروي فقد قال في كتابه “مجمل تاريخ المغرب”: “أما اللغويون والأثنولوجيون فإنهم يرجحون القول بالأصل الشرقي” أما المتخصصون من اللسنيين أولئك الذين يتكلمون البربرية فإنهم متشبتون بالصمت إذ لا يستطيعون حاليا البث في القضايا التالية: أصل اللغة الليبية القديمة مدى انتشارها، وجود لهجات مخالفة لها في مغرب قبل التاريخ، لم يتقدموا كثيرا نحو حل لغز النقوش الليبية مع أن بعضها يحمل بجانب النص الليبيي نصا بونيقيا أو لاتينيا، وبسبب هذا الإخفاق لم يستطيعوا معرفة أصل الحرف الليبي، عتيقة، أم هو اختراع محلي؟
هكذا لم يستطع أحد الانفكاك عن حيرته، والخروج من غموض الموضوع حين يقترب من أصول الأمازيغ. وإن تسلح بكل أدوات العلم ووسائله في الكشف والتنقيب.
وقد أحس الباحثون الأمازيغ بوجود هذه المعضلة في تاريخهم؛ أي دليل مقنع على حقيقة أصلهم ومنشأهم، فقال الأستاذ محمد شفيق/19: يمكن القول من العبث أن يبحث البربر عن مواطن أصلية غير التي نشأوا فيها منذ ما يقرب من مائة قرن.
وبناءً على ما انتهى إليه هذا الأمازيغي الكبير بعد أن أعياه القطع في أصلهم بشيء -فإن كل أمة وجدت نفسها في مكان ما ومضى عليها فيها مائة عام فهو موطنها الأصلي- وإذا كان الأمر كذلك فهل نستطيع أن نقول إن وجود العرب في المغرب منذ 13 قرنا يجعلهم سكانا أصليين من باب أولى.
فلماذا -يا أخي- يصر غلاة الأمازيغ على ضرب وتر الأصلي والطارئ والتذكير بذلك والتفرقة بين المغاربة على ذلك الشكل العنصري الفج البغيض؟
أما آن لهم أن يعرفوا أن المغرب هو بلد الجميع، وممر الحضارات والأمم والأجناس، ومن استقر فيه مائة عام فما فوق فهو وطنه الأصلي، ومحضنه الأساس؟
وكفى من ترهات بعض الأمازيغ وأحقادهم الدفينة.
والمهم في كل هذا.
أن نعرف أن تاريخ الأمازيغ، وحقيقة أصلهم أمر غارق في ظلمات الظنون محتمل لكل قول وادعاء، بيد أن غلاة الأمازيغ المتأخرين أصروا على الانتماء إلى أول انتساب دب على أرض المغرب، وادعوا أن دماءه هي التي تجري في عروقهم، وأنهم هم ورثته على هذه الأرض، فتحسموا في أمر لم يحسم فيه العلم، وأطالوا الصراخ فيما توقف فيه أهل الاختصاص، وتبجحوا بأصل لم يتحققوا منه، وحملوا عُوار الجهل راضين فرحين.
والأدهى في الأمر أنهم لما اطمأنوا إلى تلك الأوهام، وصدقوا أضاليلها التفتوا إلى الإسلام فصاروا يضربون أصوله، ويمتهنون حرمته، ويتهمون شريعته، ويحاصرون لغته، ويلطخون سيرته، ويتهمون قادته، في دور خبيث ينوبون فيه عن الشيطان الرجيم، وهو مربط الفرس في هذا النقاش معهم، بل يزيد الأمر سخرية حين يزعمون أنهم “مفكرون” وأن لا أحد يستطيع أن يناقش أفكارهم، وأن كل من يجادلهم هو متخلف وظلامي، وأنهم هم حماة الحرية والعقلانية والحداثة، وحراسها الأمناء.
يا صاحبي:
لقد هزلت حتى بدا من هزالها ………… كُلاها، وحتى سَامَاهَا كُلُّ مُفْلِسٍ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *