ما أورده الشيخ محمد طاهر بن عاشور من الردود والنقود على بعض كلام الشاطبي ومنهجه في هذا الكتاب فإنه قد تجرد مما يقتضي اعتباره، والاعتداد به، إذ قد أخل فيه -رحمه الله تعالى- بالمبادئ -القواعد والأسس- التي عليها قيام البناء المعرفي الصحيح. وأحد هذه المبادئ: الاستدلال على صحة المدعى بما يقتضيه ويوجبه من الأدلة، وهو ما لم يجر عليه في ذلك، إذ قصار ما أتى به دعاوى مجردة من أي شيء يثبتها.
ومن ذلك قوله: (أن الشاطبي استدل على أن أصول الفقه قطعية بمقدمات خطابية وسفسطائية، أكثرها مدخول ومخلوط غير منخول).
وقوله: ذكر الشاطبي كلاما طويلا في التعبد والتعليل معظمه غير محرر، ولا متجه. وغير ذلك من صنف هذه الدعاوى التي ساقها، ولم يقم على صحتها دليل واحد، وإنما لفظها، كأنه يرى أن ما صدر عنه يعتد به، ويعتبر صحيحا دون أن يكون معتمد ذلك الدليل والحجة، ولا يخفى ما في هذا من الخروج عن منهج العلماء وسبيلهم في شأن بناء المعرفة، بل ما فيه من أسلوب الاستعلاء ووصمة الغرور، والطيش في النظر.
فالواجب عليه سوق الأدلة على صحة ما يدعيه، وعرض ذلك على الأنظار، مبينا وجه ما يستدل به من ذلك على صحة مدعاه.
ألا يرى ما عليه الشاطبي -رحمه الله تعالى- في هذا الشأن، فهو ما فتئ مستدلا على كل رأي أو ثمر نظر يعرضه، ثم لا يكتفي بذلك، بل إنه يورد الاعتراضات والإيرادات التي قد يسوقها المخالف، وإن كان ذلك على سبيل الافتراض، ثم يجيب عنها، وبذلك يحيلك على التأمل والنظر معتمدا في كل رأي له عرضه على ما تحكم به الأدلة وتوجبه، جاعلا ذلك المعيار الذي عليه المدار والاعتبار.
ولا يخفى ما يؤخذ من ذلك ويقطف من فوائد علمية، وما يوصل إليه من كسب للملكة العلمية في هذا الشأن.
وعلى هذا السبيل مضى علماء الأمة، وانتهى إليه بناؤهم للمعرفة، وهو مالا يمكن الاستغناء عنه بأي حال، وكل كلام لم يجر عليه فهو ساقط الاعتبار، لا مبالاة به على الإطلاق.
ثاني هذه المبادئ: الأسلوب العلمي الذي أساسه الذي سداه ولحمته مراعاة مقتضى الأدلة وحكمها، فلا يصار إلى الجزم في المظنونات، ولا إلى الاستخفاف بقول المخالف دون إسقاط ما بني عليه من الأدلة والحجج. كما يجب الإنصاف في الأحكام، وإعطاء كل ذي حق حقه، وإن أتى المتكلم برأيه فليعرضه على الناس بصيغة تدل على أنه لا يراه صوابا وحقا مطلقا، وإنما هو رأي كسائر آراء الناس، فكونه باطلا أمر وارد، وعلى أنه معروض على الناس ليزنوه ويقوموه، ويحكموا عليه بما يستوجبه حاله.
وهذا أمر قد أخل به الشيخ ابن عاشور في أسلوبه في ذلك إذ يورد ما يراه بأسلوب يفهمك أن ذلك أمر مقطوع به مجزوم بمقتضاه، وهو في واقع الأمر لا يتخطى أن يكون أمرا مظنونا وذلك إن قلنا أنه معتبر ومعتد به أصلا.
ثم إنه يجري الكلام على سنن الآمر والناهي الواعظ مستعملا لفظة (على الفقيه).
وغير ذلك من الأمور القوادح في الأسلوب الذي مضى في كتابه هذا.
ثالثها: المنفعة، فهو يرى أن رد المقاصد إلى حفظ الفطرة أمر مفيد، إلا أن المتأمل في ذلك يدرك أن معرفة ذلك والجهل به سواء، لأن ما به الاستمداد والاستبصار في بناء الأحكام الفقهية هو معرفة اعتبار الشارع لهذه المقاصد المفصل الكلام فيها عند المتقدمين، لأنها المعينة للأمر المعتبر في محل النظر، والمرشد مقتضاها إلى ما يبنى عليه الحكم ببيان كاف، ولا حاجة إلى اعتبار كون ذلك مؤديا إلى حفظ الفطرة، فاعتبار ذلك وعدمه في ذلك سواء، بل الوجه الذي يمضى عليه في مجرى العمل به في ذلك غير مضبوط، كما هو الحال في شأن العمل بمقتضى المقاصد، فإنه مضبوط مفصل القول فيه، ثابت المعالم والأعلام.
رابعها: البيان لمآخذ ومدارك الآراء والأقوال، فمن المعلوم أنه لا ينسب إلى الإبداع والاختراع ما كان مجترا أو منقولا.
وهذا لا يمضي عليه الشيخ ابن عاشور، فإن ظاهر كلامه يدل على أن جميع ما يظهره باعتبار أنه من أثمار أنظاره ليس منقولا عن غيره، وأنه هو من ابتكره، وربما صرح -أحيانا- وأنت إذا تأملت في ذلك تجد أن أغلب ما أتى به من ذلك مأخوذ من منهج أو كلام الشاطبي أو غيره، أنظر على سبيل المثال إلى قوله بأن الشريعة مبنية على المصالح، وإلى تقسيم المصلحة، وإلى ما وصف به الشريعة من العموم وغيره.
و أما ما انفرد به من الاستنتاجات الذهنية فإنها محل نظر، وبحث، كقوله في شأن ترك غسل الشهيد، والمحرم. وما جرى مجراه، مما يقوله من عند نفسه، أو يكون مما نقله عن غيره واختاره، وهو مرجوح في واقع الأمر. ومن أنصف ونظر في كلامه أدرك هذا بلا شك.
خامسها: الجريان على مقتضيات الواقع. وهذا قد أسقطه -رحمه الله- إذ ذهب إلى القول بأن معرفة المقاصد مستقل عن علم الأصول، وهذا لا يخفى سقوطه، إذ من المعلوم أن بناء الحكم الفقهي لا يمكن أن يحصل برعاية المقاصد وفق ما تقتضيه العقول فيها فقط، بل المحكم في ذلك هو النص الشرعي، وهذا بين أمره في المصالح الملغاة شرعا، والعقل البشري حاكم باعتبارها.
وإذا كان المحكم في ذلك هو النص الشرعي ثبت أنه لا مفر من إعمال علم الأصول في هذا الشأن لتعلق علم الدلالة وترتيب الأدلة ومعرفة الدليل التام، وقوته الحجية وغير هذا بذلك.
وخفاء المصلحة الحقيقية على عقل الإنسان وقصر العلم بها على الشارع أمر ثابت لا ينكره إلا جاهل معاند، ومن ثم ضبطت المصلحة الشرعية بالضوابط الخمسة المعروفة.
ولا يخفى أن هذا الإدعاء -إدعاء كون معرفة المقاصد مفصولا عن علم الأصول- قول مبتدع مخالف لما أجمعت عليه الأمة من أن معرفة المقاصد قصارا مفادها أنه يتبصر به في مواقع الأحكام وتحقيق المناط.
ولكن المحكم في ذلك هو الدليل الشرعي الخاص والعام الجاريين في موضوع الحكم، وقد تتخلف المعرفة بالقصد الشرعي فيه وذلك الحكم الشرعي فيه ماض. وهذا مبين يقتضيه حكم الواقع ويوجبه.
خلاصة القول أن اعتراضات ابن عاشور على الشاطبي ليست مبنية على ما يجعلها معتبرة معتدا بها، فلا ينبغي أن يعرج بها على الإطلاق، بل كل ما أتى به في كتابه هذا يجب أن ينظر فيه ليقوم.
وهذا ليس فيه تنقيص لقيمة هذا العالم -ابن عاشور- أو الحط من منزلته، وإنما هو بيان لأمر وجب بيانه في هذا الذي نحن فيه بإنصاف.
والله -تعالى- أعلم.