لا سبيل إلى طاعته تعالى إلا بمعونته, ولا وصول إلى مرضاته إلا بتوفيقه فموارد الأمور كلها منه ومصادرها إليه فلا مستعان للعباد إلا به ولا متكل إلا عليه كما قال شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام “وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ”.
يقول البيضاوي رحمه الله في تفسيره للآية: “وما توفيقي لإصابة الحق والصواب إلا بهدايته ومعونته”.
وقال السعدي رحمه الله في تفسيره للآية: “وما توفيقي إلا بالله أي: ما يحصل لي من التوفيق لفعل الخير, والانفكاك عن الشر إلا بالله تعالى لا بحولي ولا بقوتي”.
وذكر الحافظ ابن كثير في تفسيره عن عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن أبي سليمان الضبي قال: كانت تجيؤنا كتب عمر بن عبد العزيز فيها الأمر والنهي فيكتب في آخرها وما كنت من ذلك إلا كما قال العبد الصالح “وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ”.
وقد أجمع أهل العلم والعرفان أن التوفيق هو أن لا يكلك الله إلى نفسك, والخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك. انظر المدارج.
والعبيد متقلبون بين توفيق الله وخذلانه, بل العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا، فيطيعه ويرضيه ويذكره ويشكره بتوفيقه له, ثم يعصيه ويخالف ويغفل عنه بخذلانه له, فهو دائر بين توفيقه وخذلانه, فإن وفقه فبفضله ورحمته وإن خذله فبعدله وحكمته وهو المحمود على هذا وهذا.
فمتى شهد العبد هذا المشهد واعطاه حقه علم شدة ضرورته وحاجته إلى التوفيق في كل نَفَسٍ وكل لحظة وطرفة عي،ن ولأجل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من قوله : “يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك” و”يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك”, وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: “ياحي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث، أصلح شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك”.
فبهذا يشهد العبد توفيق الله وخذلانه فيسأله توفيقه مسألة المضطر, ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف ويلقي نفسه بين يديه طريحا ببابه مستسلما له ناكس الرأس بين يديه خاضعا ذليلا مستكينا لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياتا ولا نشورا.
وليعلم أن كثيرا من الناس قد أغلق عليه باب التوفيق لأمور ستة:
أولها: شغلهم بنعم الله وغفلتهم عن شكرها, وصدق الله حيث قال “وقليل من عبادي الشكور”، ولأجله علم النبي صلى الله عليه وسلم معاذا أن يقول دبر كل صلاة: “رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك”.
ثانيها: رغبتهم واجتهادهم في تعلم العلم وكسلهم عن العمل, وقد قال علي رضي الله عنه: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
ثالثها: مسارعتهم إلى الذنوب وتأخير التوبة لعلام الغيوب, والله تعالى يقول: “وتوبوا إلى الله جميعا” وقال عليه الصلاة والسلام: “يا أيها الناس توبوا إلى الله” مسلم.
رابعها: اغترارهم بصحبة الصالحين وتركهم الاقتداء بهم.
يقول ابن الجوزي رحمه الله: “صاحب أهل الدين وصافهم واستفد من أخلاقهم وأوصافهم” المدهش.
خامسها: إدبار الدنيا عنهم واتباعهم لها وقد قال عليه الصلاة والسلام: “الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر”.
سادسها: إقبال الآخرة عليهم وإعراضهم عنها والله تعالى يقول: “وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ” أي: الحياة الحقيقية.
قال شقيق بن إبراهيم البلخي رحمه الله: “أغلق باب التوفيق عن الخلق من ستة أشياء: اشتغالهم بالنعمة عن شكرها, ورغبتهم في العلم وتركهم العمل, والمسارعة إلى الذنب وتأخير التوبة, والإغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بفعالهم, وإدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها, وإقبال الآخرة عليهم وهم معرضون عنها” الفوائد لابن القيم.