من فقه البيوع النوع الثالث من البيوع المحرمة بيوع الربا: الحلقة السابعة الأجناس التي يجري فيها الربا (تابع) ياسين رخصي

علة تحريم ربا الفضل في الدراهم والدنانير
قال العلامة ابن القيم:
“وأما الدراهم والدنانير، فقالت طائفة: العلة فيهما كونهما موزونين، وهذا مذهب أحمد في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة، وطائفة قالت: العلة فيهما الثمنية، وهذا قول الشافعي ومالك وأحمد في الرواية الأخرى، وهذا هو الصحيح بل الصواب، فإنهم أجمعوا على جواز إسلافهما في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما؛ فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا؛ فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النَّساء، والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها. وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة، فهو طَرْدٌ محض، بخلاف التعليل بالثمنية، فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يُعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودا مضبوطا لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تُعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تُقوَّم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يُقوَّم هو بغيره؛ إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف ويشتد الضرر، كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذوا الفلوس سلعة تُعَدُّ للربح فعَمَّ الضرر وحصل الظلم، ولو جُعِلَت ثمنا واحدا لا يزداد ولا ينقص بل تُقوَّم به الأشياء ولا يقوم هو بغيرها لصلح أمر الناس، فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير -مثلا أن يعطي صِحاحا ويأخذ مُكسَّرة أو خِفافا ويأخذ ثِقالا أكثر منها- لصارت مُتَّجَراً، وجر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد؛ فالأثمان لا تُقصَد لأعيانها، بل يُقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في أنفسها سلعا تُقصد لأعيانها فسد أمر الناس، وهذا قول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات”(1).
إذا علم هذا، وأن تعامل الناس اليوم صار بالأوراق النقدية، بدل الذهب والفضة فلابد من معرفة حكم هذه الأوراق وتكييفها الفقهي كما قرره العلماء المعاصرون.
قرار مجلس المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي بشأن العملة الورقية:
“بناء على أن الأصل في النقد هو الذهب والفضة، وبناء على أن علة جريان الربا فيهما هي مطلق الثمنية في أصح الأقوال عند فقهاء الشريعة، وبما أن الثمنية لا تقتصر عند الفقهاء على الذهب والفضة وإن كان معدنهما هو الأصل، وبما أن العملة الورقية قد أصبحت ثمنا وقامت مقام الذهب والفضة، ويحصل الوفاء والإبراء بها رغم أن قيمتها ليست في ذاتها، وإنما في أمر خارج عنها، وحيث إن التحقيق في علة جريان الربا في الذهب والفضة هو مطلق الثمنية، وهو متحقق في العملة الورقية، لذلك كله فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي يقرر: أن العملة الورقية نقد قائم بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة. فتجب الزكاة فيها، ويجري الربا عليهما بنوعيه فضلا ونساء، كما يجري ذلك بالنقدين من الذهب والفضة تماما باعتبار الثمنية في العملة الورقية قياسا عليها، وبذلك تأخذ العملة الورقية أحكام النقود في كل الالتزامات التي تفرضها الشريعة فيها، وبهذا يصبح القول إن علة الذهب والفضة كونهما موزوني جنس، قولا لا عمل فيه، ولا معول عليه، وأصبحت الثمنية هي العلة في كل عملة نقدية من أي نوع تكون”(2).
هذا ما ذهب إليه المجمع الفقهي، وليس لعلماء الفقه السابقين أقوال في بيان حقيقة الأوراق النقدية، اللهم ما أشار إليه مالك، ففي المدونة أنه قال رحمه الله: “ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى يكون لها سكة وعين، لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نَظِرَة (أي إلى أجل)”.
وإنما لم يكن للسابقين من الفقهاء أقوال في بيان حقيقة الأوراق النقدية لعدم ظهورها في زمانهم، وإنما الكلام في ذلك للعلماء المعاصرين، وقد اختلفوا في تكييف هذه الأوراق من حيث النظرة الشرعية إلى أقوال أهمها وأشهرها خمسة:
– القول الأول: أنها نقد مستقل قائم بذاته، وهو ما ذهب إليه المجمع الفقه الإسلامي بمكة التابع لرابطة العالم الإسلامي، ومن أصحاب هذا القول الشيخ عبد الوهاب خلاف.
– القول الثاني: أنها فلوس، والفلوس: عملة يتعامل بها مضروبة من غير الذهب والفضة كالنحاس والحديد، وقد كانوا يستخدمونها في تقييم المحقرات من السلع، وأفلس الرجل: صار ذا فلوس بعد أن كان ذا دراهم، أو: أنه صار إلى حال يقال فيها ليس معه فلس، أي مال.
ومن أصحاب هذا القول الشيخ عبد الرحمن السعدي في فتوى له، والشيخ عبد الله بسام.
– القول الثالث: أنها بدل عن النقدين: الذهب والفضة، ومن أصحاب هذا القول الشيخ عبد الرحمن السعدي في فتوى له، لكنه رد هذا القول وضعفه في موضع آخر من فتاويه.
– القول الرابع: أنها سندات ديون، وممن ذهب إلى هذا القول الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
– القول الخامس: أنها عروض تجارة، ومن أصحاب هذا القول الشيخ محمد عليش وكثير من متأخري المالكية(3).
وسيأتي في الحلقة القادمة إن شاء الله مزيد بيان لأحكام صرف هذه الأوراق.
وبالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1)- إعلام الموقعين (3/401-402).
2)- توضيح الأحكام من بلوغ المرام (2/467).
3)- أنظر الزيادة وأثرها في المعاوضات المالية (2/586-612).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *