- الدُرَّة المنتقاة:
عن سعد بن أبي وقاص أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الْعَالِيَةِ، حَتَّى إِذَا مَرَّ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، دَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ، وَدَعَا رَبَّهُ طَوِيلاً، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَيْنَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «سَأَلْتُ رَبِّى ثَلاَثًا، فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا» (مسلم: 2790).
- تأملات في الدُّرة:
في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بمسجد من مساجد المدينة، فدخله وصلى فيه ركعتين، وصلى معه أصحابه ، فلما انتهى من صلاته دعا وأطال الدعاء، ثم أقبل على الصحابة، فأخبرهم أنه سأل ربه أمورا ثلاثة، وأن الله تعالى أعطاه اثنتين من الثلاثة، سأله أن لا يهلك أمته بالقحط العام فاستجاب له، وسأله أن لا يعذبهم بالغرق فاستجاب له، وسأله أن لا يسلط هذه الأمة بعضها على بعض فمنعه إياها.
- وَمَضَاتُ الدُّرة:
من فوائد الحديث:
- مشروعية صلاة النافلة جماعة أحيانا من غير تداعٍ إليها، ولا التزام لها، ويدل على ذلك قول الصحابي “وصلينا معه”، وقوله: “انصرف إلينا”، ونظيرُ ذلك حديث عتبان بن مالك رضي الله عنه حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيه ويصليَ في بيته، ليتخذ مصلاه مسجدا، قال عتبان: “فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه بَعْدَمَا اشْتَدَّ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَذِنْتُ لَهُ، فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ: «أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّىَ مِنْ بَيْتِكَ». فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ أَنْ أُصَلِّىَ فِيهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَبَّرَ وَصَفَفْنَا وَرَاءَهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ…”(متفق عليه، وقد بوب عليه البخاري “باب صلاة النوافل جماعة”).
- استحباب إسرار الدعاء، والإلحاح فيه، ويدل على ذلك أن الصحابة لم يعلموا دعاءه حتى أعلمهم به، وأنه أطال الدعاء مع أنه لم يسأل إلا أمورا ثلاثة. ويدل لذلك قوله تعالى: “ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ” (الأعراف55). قوله: تضرعا: أي تذللا واستكانة، وقوله خفية: أي: سرا.
- شدة حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، ورحمته بهم، وشفقته عليهم، كما قال تعالى: “لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ” (التوبة128)، ومما يدل على شدة شفقته على أمته ما رواه عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم تَلاَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ:( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) الآيَةَ. وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فَرَفَعَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي»، وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرِيلُ! اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ- فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ – عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ – فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَ. وَهُوَ أَعْلَمُ. فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ! اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلاَ نَسُوءُكَ“(مسلم). فانظر أخي إلى بكاء النبي صلى الله عليه وسلم شفقة على أمته حتى جاءته البشارة من ربه، وانظر إلى حال أمته اليومَ مع سنته، فو الله ما أرانا قد أَنْصَفْنَا نبينا.
- أن هذه الأمة أمة مرحومة قد عصمها الله تعالى من أن يعذبها الله تعالى بما عذبت به الأمم السابقة من القحط العام، والغرق.
- أن عذاب هذه الأمة هو الفرقة، وتسليط بعضها على بعض، ويؤكد ذلك ما رواه خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةً فَأَطَالَهَا، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! صَلَّيْتَ صَلاَةً لَمْ تَكُنْ تُصَلِّيهَا، قَالَ: «أَجَلْ! إِنَّهَا صَلاَةُ رَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، إِنِّي سَأَلْتُ اللَّهَ فِيهَا ثَلاَثًا، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِسَنَةٍ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فَمَنَعَنِيهَا»(أخرجه النسائي والترمذي وقال هذا حديث حسن غريب صحيح، وصححه الألباني)، وفي قوله: “وَسَأَلْتُهُ أَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَانِيهَا” دليل على أن هذه الأمة لم تُؤْتَ مِنْ قِبَل أعدائها، وإنما أُتِيَتْ من قِبَل نفسها، وأنها متى عادت إلى ربها، وأصلحت فيما بينها، عاد لها النصر والتمكين، ولم يضرَّها كيد أعدائها شيئا.
فاللهَ اللهَ -يا معشر المسلمين- في الاعتصام بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
الله اللهَ في الاجتماع على كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة.
اللهَ اللهَ – يا معشر أهل السنة- في هذه الأمة، أدركوها وأنقذوها مما هي فيه من الذُّل والهوان، فإن الأمل معقود –بعد الله- فيكم لترجعوا بها إلى سالف عهدها، وتعودوا بها إلى سابق مجدها.
لكنْ، كيف يكون لكم ذلك؟! وقد خذل بعضكم بعضا، وتسلط بعضكم على بعض، حتى إنه لا يكاد يجتمع منكم اثنان على كلمة واحدة.