الدُرَّة المنتقاة
عَنْ أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِي رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً، فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ» رواه مسلم.
تأملات في الدُّرة
في هذه الدرة النبوية يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم ببعض أسمائه وهي:
1. مُحَمَّد: أي المحمود، الذي يُحمد على كثرة خصاله الحميدة، قال النووي: “يقال: رجل محمد، ومحمود، إذا كثرت خصاله المحمودة” (شرح مسلم 15/104). قال ابن حجر: “هو بمعنى محمود وفيه معنى المبالغة… والمحمد الذي حُمِدَ مرة بعد مرة”.
2. أحمد: أي أكثرُ الناس حمداً لِرَبِّه.
3. المُقَفِّي: المتبع للأنبياء، فلا نبي بعده، كما قال تعالى بعد ذكر الرسل: “ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ” (الحديد 27)، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو المُقَفِّي للرسل جميعا بمن فيهم عيسى بن مريم؛ لأنه لا نبي بعده.
4. الحاشر: أي: هو أول من يُحشر، كما في حديث جبير بن مطعم: “وأنا الحاشر، الذي يحشر الناس على قدمي” (متفق عليه)، أي: على أثري، أي: أنه يحشر قبل الناس (الفتح 6/557).
5. نبي التوبة: قال القاضي عياض: “سمي بذلك؛ لأنه بُعث صلى الله عليه وسلم بقبول التوبة بالقول والاعتقاد، وكانت توبة من قبلنا بقتل أنفسهم” (شرح النووي على مسلم 11/132).
6. نبي الرحمة: لأنه رحمة، وجاء بالرحمة، ودعوته رحمة.
وَمَضَاتُ الدُّرة:
في هذه الدرة من الفوائد:
1- تعدد أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بلغ بها ابن دحية ثلاثمائة اسم، مأخوذة من القرآن والسنة. قال الحافظ ابن حجر: “غالب الأسماء التي ذكرها وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد الكثير منها على سبيل التسمية” الفتح 6/558.
فينبغي الاكتفاء بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أسمائه، ولا يلزم أن تكون كل صفة وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم اسما له؛ لأن باب الأوصاف أعم من باب الأسماء. ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم التي لم ترد في هذا الحديث: العاقبُ، والماحي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي ، وَأَنَا الْعَاقِبُ» متفق عليه، والعاقب من لا نبي بعده.
2- أسماء النبي صلى الله عليه وسلم أعلام وأوصاف، كل اسم منها يدل على صفة من صفاته الكريمة صلى الله عليه وسلم.
3- محمد صلى الله عليه وسلم أكثر الناس حمدا لربه في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإنه كان يقوم لربه حتى تتفطر قدماه، فإذا قيل له في ذلك؛ قال: “أفلا أكون عبدا شكورا” متفق عليه، وأما في الآخرة فإن الله تعالى يفتح عليه بمحامد يحمده بها لم يفتح بها على أحد قبله، فيُشَفِّعه بسبب تلك المحامد في الناس ليُقضى بينهم. قال الحافظ ابن حجر: “..ومعناه أحمد الحامدين، وسبب ذلك ما ثبت في الصحيح أنه يفتح عليه في المقام المحمود بمحامد لم يفتح بها على أحد قبله” (الفتح6/555).
4- محمد صلى الله عليه وسلم أكثر الناس يحمده الناس ويثنون عليه، ويذكرونه ذكرا حسنا في الدنيا وفي الآخرة، أما في الدنيا فقد رفع الله ذكره بين الناس، وجعل له لسان صدق في الآخرين، كما قال جل وعلا: “وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ” (الشرح4) ، فلا يُذكر الله في تشهد ولا أذان ولا إقامة إلا ذكر معه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يُعلم بشر على وجه الأرض يذكر اسمه ويثنى عليه ويصلى عليه أكثر مما يذكر اسم النبي صلى الله عليه وسلم ويثنى عليه ويصلى عليه، هذا في الدنيا؛ وأما في الآخرة فإن الله وعده مقاما محمودا يحمده عليه الناس جميعا آدم فمن بعده، وهو شفاعته في أهل الموقف يوم القيامة ليقضى بينهم، كما قال تعالى: “وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ” (الإسراء79). إذا كان هذا حال نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة فلا يضره بعد ذلك أن يُنكر فضله مغمور، مجهول العين والحال، لا يُعرف من هو، ولا يُدرى ما أصله.
5- محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء فلا نبي بعده، كما قال تعالى: “مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً” (الأحزاب40).
6- محمد صلى الله عليه وسلم أول الناس يُحشر يوم تنشق الأرض عن العباد، كما قال صلى الله عليه وسلم: ” أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع” (مسلم).
7- محمد صلى الله عليه وسلم أكثر الناس تاب العبادُ على يديه، فليس في الأنبياء أكثر تابعا منه، وليس في الجنة أمة أكثر عددا من أمته، كما يدل على ذلك حديث عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ». قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: «تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ». قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: «أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ». قُلْنَا: نَعَمْ. قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَنَّةَ لاَ يَدْخُلُهَا إِلاَّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ، وَمَا أَنْتُمْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ إِلاَّ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَسْوَدِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الأَحْمَرِ» متفق عليه.
8- محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للناس جميعا، من إنس وجن، كما قال تعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ” الأنبياء107، فهو رحمة، ورسالته رحمة ودعوة إلى الرحمة بالبشرية جمعاء، بل بأهل الأرض جميعا، ولهذا قال: «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» صحيح الجامع3522. بل إنه قد استفاد من رحمة رسالته الحيوان كما استفاد الإنسان، فإنه قد نهى عن تعذيب الحيوان، وعن اتخاذه غرضا للرمي، وعن التحريش بين الحيوان، وأمر بأن تحد الشفرة عند الذبح، وأن تخفى عن الحيوان، وأن تحسن الذبحة، وأن تراح الذبيحة… فلا ينكر رحمة رسالته إلى أعمى البصيرة، ولا يصفها بالإرهاب إلا منكوس الفطرة.