أقسام العقود من حيث مشروعيتها وعدمها
تنقسم عقود المعاوضات من حيث مشروعيتها وعدمها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: عقود مشروعة اتفق أهل العلم على جوازها، فلا حرج على المسلم في عقدها والتعامل بها.
القسم الثاني: عقود محرمة اتفق أهل العلم على حرمتها، فلا يجوز للمسلم أن يعقدها أو أن يتعامل بها.
القسم الثالث: عقود اختلف أهل العلم في حكمها، فهي عند طائفة جائزة وعند آخرين ممنوعة.
كعقد المزارعة[1] وعقد المساقاة[2] فاسدان عند أبي حنيفة والشافعي في قول، والمال المكتسب من طريقهما محرم لا يجوز الانتفاع به، خلافا لمالك وأحمد والصاحبين -صاحبي أبي حنيفة-، فإن المزارعة والمساقاة من العقود الجائزة عندهم والمال المكتسب من طريقهما حلال.
ومثله بيع الكلب جائز عند أبي حنيفة وسحنون من المالكية، حتى ورد عنه قوله: أبيعه -أي الكلب- وأحجّ بثمنه، وعند الجمهور ثمن الكلب خبيث يحرم الانتفاع به[3].
فما حكم المال المكتسب عن طريق هذا النوع من العقود؟
والجواب: أن كل مال اكتسبه المسلم عن عقد اعتقد صحته بتأويل سائغ أو تقليد من يثق به من أهل العلم والدين والورع، فإنه لا يكون حراما بل هو حلال طيب، لأنه تحرى في ذلك موافقة الحق، فإن تبين له أن الحق خلاف ما ذهب إليه فرجع عن اجتهاده أو تقليده فإن المال المكتسب بالاجتهاد الأول حلال ولا يلزمه ردّه أو إخراجه عن ملكه، وإنما يكلف بالانتهاء عن ذلك النوع من العقود في المستقبل[4].
قال شيخ الإسلام: ما قبض بتأويل فإنه يسوغ للمسلم أن يشتريه ممن قبضه وإن كان المشتري يعتقد ذلك العقد محرما، كالذمي إذا باع خمرا وأخذ ثمنها، جاز للمسلم أن يعامله في ذلك الثمن وإن كان المسلم لا يجوز له بيع الخمر[5].
ويحتج لما ذكر شيخ الإسلام بما روى أبو عبيد في الأموال: أن بلالا قال لعمر إن عمَّالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج، فقال لا تأخذوا منهم ولكن ولوهم بيعها، وخذوا أنتم الثمن.
ما هو الخلاف الذي يثبت فيه إباحة مباشرة الفعل المختلف فيه لمن يعتقد حلّه؟
قد ذكرنا أن ثمة عقوداً اختلف أهل العلم في حكمها، فما ضابط الخلاف الذي يَسُوغ معه مباشرة هذا النوع من العقود؟
بيّن الإمام السيوطي حقيقة الخلاف الضعيف غير المعتبر من خلال شروط ثلاثة اشترطها في مراعاة الخلاف المقبول عند الفقهاء وهي:
1- أن لا تؤدي مراعاة الخلاف إلى الوقوع في خلاف آخر.
2- أن لا تؤدي مراعاة الخلاف إلى مخالفة سنة ثابتة.
3- أن يكون الخلاف مما قوي مدركه بحيث لا يعدُّ هفوة من قائله[6].
فشرط الخلاف المقبول عند العلماء أن لا يخالف به صاحبه سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن خالف فيه سنة ثابتة كان خلافه ضعيفا لا يعتبر ولا يعدّ من الخلاف الذي يثبت فيه لمعتقده إباحة مباشرة الفعل المختلف فيه.
فمن ذلك مثلا إباحة عطاء بن أبي رباح عارية الجواري للاستمتاع بهن، فإن ذلك مناقض لنصوص الشريعة التي تحرم الزنا ولا حجة بقياس عارية الجواري على عارية الأعيان بجامع تحصيل المنفعة للفارق بينهما، لأن العارية إن وقعت في الفروج أصبحت زنا، والزنا حرام في الشرع.
ومن ذلك ما ذهب إليه الشيخ مصطفى الزرقاء في إباحته للتأمين، مخالفا في ذلك قواعد الشريعة وأصولها التي تحرم كل معاملة يدخلها الغرر والقمار، فخلافه في هذه المسألة ضعيف لأن الحرمة في ظاهره.
ومن ذلك أيضا ما تروج له بعض الأبناك والمصارف من أنواع العقود المشتملة على الحيل الربوية مدّعِيةً أنها من الحلال المشروع، فعلى المسلم أن يتَّقي الله وأن لا يقدم على مثل هذه العقود بدعوى أنها من العقود المختلف فيها التي لا ضَيرَ على من تعاطاها، فإنه لا عبرة بالخلاف الذي يخرج به صاحبه عن نصٍّ من القرآن أو سنة ثابتة.
وبالله التوفيق.
[1] المزارعة عقد بين المزارع ومالك الأرض على استئجارها ببعض ما يخرج منها.
[2] المساقاة: عقد بين الساقي ومالك الثمر على أن يتعهدها الساقي بالسقي والعناية مقابل جزء من ثمرتها، والصحيح جواز هذين العقدين للأدلة الكثيرة الصحيحة من السنة.
[3] انظر أحكام المال الحرام لعباس الباز ص:108-110.
[4] انظر فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك لمحمد عليش.
[5] مجموع الفتاوى (29/265).
[6] الأشباه والنظائر ص:136 للإمام السيوطي.