8- وصف القرآن بأنه حكيم محكم:
وصف الله تعالى كتابه بأنه حكيم ومحكم في أكثر من آية، من ذلك قوله جل وعلا: “الم، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ” لقمان:1-2، وقوله سبحانه: “يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ” يس:1-2، وقوله تعالى:”الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ” هود:1.
كما وصف الله تعالى كتابه بأنه متشابه في قوله تعالى: “اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ..” الزمر:23.
ووصفه بأن بعضه محكم وبعضه متشابه في آية واحدة من سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: “هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ..” آل عمران:7.
فلا يظن ظان أن هناك تعارض بين هذه النصوص، فكلام الله تعالى لا تناقض فيه ولا تعارض البتة[1]:
1- فوصف القرآن بأنه محكم كله: أي أنه بلغ الغاية في الإحكام والإتقان والفصاحة والصدق والعدل، فأخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل، ولا تعارض في نصوصه، وكيف لا يكون هذا الكتاب العظيم كذلك وهو كلام الله تعالى وآخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم والذي نسخ الله به جميع الشرائع والملل”.
فالقرآن حكيم في أسلوبه الرائع الجذاب، حكيم في هدايته ورحمته، حكيم في إيضاحه وبيانه، حكيم في تشريعاته، حكيم في كل أحكامه، حكيم في أمره ونهيه، حكيم في ترغيبه وترهيبه، حكيم في وعده ووعيده، حكيم في أقاصيصه وأخباره، حكيم في أقسامه وأمثاله، حكيم في كل ما اشتمل عليه بل هو فوق كل ذلك وأعظم من ذلك، والقرآن أيضا محكم فلا حشو فيه، ولا نقص ولا عيب كما يكون في كلام البشر”[2].
قال الطاهر بن عاشور: “والحكيم وصف:
– إما بمعنى: فاعل، أي الحاكم على الكتب بتمييز صحيحها من محرفها مثل قوله تعالى: “وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ“، وقوله: “وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ“.
– وإما بمعنى مفعل بفتح العين أي محكم، مثل عتيد بمعنى معد.
– وإما بمعنى ذي الحكمة لاشتماله على الحكمة والحق والحقائق العالية، إذ الحكمة بمعنى إصابة الحق بالقول والعمل”[3].
وفي تفسير القرطبي: “والحكيم المحكم حيث لا يتعرض لبطلان ولا تناقض.. وكذلك أحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل”[4].
2- ووصفه بأنه متشابه كله: أي يشبه بعضه بعضا في الإتقان والفصاحة والبلاغة وفي صدق أخباره وعدل أحكامه، قال تعالى: “اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ..”، أي “في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف بوجه من الوجوه حتى إنه كلما تدبره المتدبر وتفكر فيه المتفكر رأى من اتفاقه حتى في معانيه الغامضة ما يبهر الناظرين ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم”[5] .
3- وأما وصفه بأن بعضه محكم وبعضه متشابه: فالمقصود بالمحكم هنا الظاهر الجلي الذي لا خفاء في معناه ولا إشكال، وأما المتشابه فهو ما خفي معناه[6]، فلا يفهم إلا برده إلى المحكم وهذه طريقة الراسخين في العلم، كما قال تعالى: “وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا“، أي محكمه ومتشابهه.
وأما أهل الزيغ فإنهم يتمسكون بالمتشابه دون رده إلى المحكم، “طلبا للفتنة وصدا للناس عن دينهم وعن طريق السلف الصالح، فحاولوا تأويل هذا المتشابه إلى ما يريدون لا إلى ما يريده الله ورسوله، وضربوا نصوص الكتاب والسنة بعضها ببعض وحاولوا الطعن في دلالتها بالمعارضة والنقض ليشككوا المسلمين في دلالتها ويعموهم عن هدايتها وهؤلاء هم الذين ذمهم الله بقوله: “فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ“[7].
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: “تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: “هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ“، فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم” (صحيح البخاري، كتاب التفسير).
[1]– يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى: “وأن الآيات التي يفهم منها التعارض والتناقض ليس فيها تناقض ولا تعارض، بل يجب حمل كل منها على الحالة المناسبة اللائقة بها” اهـ (أصول وكليات من أصول التفسير وكلياته، في مقدمة التيسير ص:12).
وهذه قاعدة عظيمة وأصل من أصول التفسير، وهو أنه لا تعارض بين كلام الله تعالى، كما قال جل شأنه: “وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً“. يقول الشيخ عبد الرزاق البدر في شرحه لهذه الكلية -ما معناه-: “فإذا رأينا أن آيتين ظاهرهما التعارض فعلينا: 1- أن نعتقد أولا اعتقادا جازما أنه لا تعارض في كلام الله إطلاقا.
2- وأن نعلم أن التعارض الظاهر إنما هو حسب فهمنا القاصر.
3- م علينا أن نحمل كل آية منهما على المناسبة اللائقة بها”.
[2]– الهدى والبيان في أسماء القرآن، للشيخ إبراهيم البليهي، نقلا من النهج الأسمى للشيخ محمد النجدي ص:175.
[3]– التحرير والتنوير لابن عاشور، تفسير سورة يونس (11/82).
[4]– الجامع لأحكام القرآن.
[5]– تيسير الكريم الرحمن ص:668.
[6]– “وقد اختلف العلماء في معنى المحكم والمتشابه على أقوال عدة:
– فقيل المحكم ما عرف المراد منه إما بظهوره وإما بالتأويل، والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة..
– وقيل المحكم ما وضح معناه والمتشابه نقيضه.
– وقيل المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا، والمتشابه ما احتمل أوجها.
– وقيل المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه كاختصاص الصيام برمضان دون شعبان، قاله الماوردي.
– وقيل المحكم ما استقل بنفسه، والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره.
– وقيل المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمشابه القصص والأمثال…-و قيل غير ذلك-” الإتقان للسيوطي (ص:212).
[7]– شرح لمعة الاعتقاد للشيخ ابن عثيمين (ص:33).