من دُرَرِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ (الحلقة الثامنة والعشرون) د. محمد أبوالفتح

– الدُرَّة المنتقاة:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ؛ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ، لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ». أخرجه أبو داود (3462) وصححه الألباني.
– تأملات في الدُّرة:
ينبؤنا النبي صلى الله عليه سلم في هذه الدرة من درر كلامه، أن المسلمين سيلحقهم الذل والهوان حين يتركون دينهم، وذلك إذا تبايعوا بالعِينة -وهو بيع ربوي- وأخلدوا إلى الأرض، واطمأنوا إلى الحياة الدنيا وزينتها، فانشغلوا بالزراعة وتربية الماشية عن الجهاد لإعلاء كلمة الله. إذا فعل المسلمون ذلك لزمهم الذل، فلا يرفعه الله عنهم حتى يعودوا إلى دينهم.

– وَمَضَاتُ الدُّرة:
في هذه الدرة من الفوائد:
1. تحريم بيع العينة، وصورته: أن يبيع بائعٌ سلعة ديناً إلى أجل، ثم يرجع فيشتريها من الذي اشتراها منه قبل حلول الأجل بثمن أقل، ويدفع له الثمن حالاً، فترجع السلعة إلى بائعها الأول، ويكون قد أعطاه دراهم بدراهم أكثر منها إلى أجل، وهذا هو عين الربا. فإن كان هذا التصرف بتواطؤ فهو تحايل على أكل الربا، وإن كان بغير تواطؤ فهو ذريعة إلى أكل الربا.
2. تحريم التحايل على ما حرم الله، كما في حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عَامَ الْفَتْحِ، وَهُوَ بِمَكَّةَ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ ». فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ؛ فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: «لاَ، هُوَ حَرَامٌ». ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ، إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا، جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» (متفق عليه).
وفي الحديث الآخر: “لاَ تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَ اليَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللهِ بِأَدْنَى الحِيَل” [قال الألباني في آداب الزفاف (ص192): «رواه ابن بطة في “جزء إبطال الحيل” (ص 24) بسند جيد، كما قال ابن تيمية وابن كثير»].
3. حكمة الشريعة الإسلامية وذلك أنها إذا حرمت شيئا سَدَّت الذرائع الموصلة إليه، وأغلقت الطرق المؤدية إليه، وجعلت للوسائل أحكام المقاصد.
4. سبب الذل الذي لحق المسلمين هو تركهم لدينهم، وتكالبُهم على الدنيا الفانية، فانسلخوا من دينهم من أجل دنياهم، فعاقبهم الله بنقيض قصدهم، بأن أضاع دنياهم، وأذاقهم مرارة الذل والهوان، فكان لهم نصيب من قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ” (المجادلة20).
وأما سلفنا الصالح فإنهم انسلخوا من دنياهم من أجل دينهم، فكان لهم نصيب من قوله تعالى: “وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ” (المنافقون8)، فصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فصدقهم الله ُ وعده الذي وعدهم في قوله: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” (النور55).
5. أن الذلة لن تُرفع عن المسلمين حتى يرجعوا إلى دينهم، كما قال عمر رضي الله عنه: “إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ، فََأَعَزَّنَا اللهُ بِالإِسْلاَمِ، فَمَهْمَا نَطْلُبِ العِزَّ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللهُ” (صححه الحاكم والألباني). فكان الأمر كما قال عمر رضي الله عنه وهو المُحَدَّث الملهم، طلب المسلمون العزة في غير ما أعزهم الله به، فعادوا كما وصفهم عمر رضي الله عنه قبل الإسلام: “أذل قوم”، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
6. أن العزة ستعود إلى المسلمين مرة أخرى حين يرجعون إلى العمل بدينهم والتحاكم إليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *