من دُرَرِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ (الحلقة التاسع عشرة) ذ.محمد أبوالفتح

• الدُرَّة المنتقاة:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا، أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ، حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ » (أخرجه البخاري2459، ومسلم 57).

• تأملات في الدُّرة:

في هذه الدرة النبوية، يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن خصال أربعة من وجدت فيه كان موصوفا بالنفاق العملي كله، ولا ينفك عنه هذا الوصف حتى يترك تلك الخصال الذميمة، وهي:
1- الكذب في الحديث، وذلك بالإخبار عن الأشياء بخلاف ما هي عليه قاصدا الكذب، وقد ورد في التحذير منه، وفي الحث على ضده -وهو الصدق- آيات وأحاديث نذكر منها قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ” (التوبة119)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصِّدق؛ فإنَّ الصِّدقَ يهدي إلى البر، وإنَّ البرَّ يهدي إلى الجنَّة، وما يزال الرَّجل يصدق ويتحرَّى الصِّدقَ حتى يُكتب عند الله صديقاً، وإيَّاكم والكذب؛ فإنَّ الكذبَ يهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجورَ يهدي إلى النار، وما يزال الرَّجل يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذَّاباً) رواه مسلم (2607).

2- إخلاف الوعد، وذلك بأن يعد غيره وعدا، ثم لا ينجز له ما وعده به من غير عذر، وإخلاف الوعد من صفات الشيطان، كما قال تعالى: “وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (إبراهيم22)، وروى أبو داود (4991) عن عبد الله بن عامر أنَّه قال: (دعتني أمِّي يوماً ورسول الله قاعد في بيتنا، فقالت: ها، تعال أعطيك، فقال لها رسول الله: وما أردتِ أن تعطيه؟ قالت: أعطيه تمراً، فقال لها رسول الله: أمَا إنَّك لو لم تعطه شيئاً كُتبت عليك كذبة) (الصحيحة للألباني 748).
3- الفجور في الخصومة: وذلك بتجاوز حد العدل مع الخصم، “والفجورُ الميلُ عن الحقِّ، والاحتيال في ردِّه” (فتح الباري 1/90): وقد أمرنا الله تعالى بالعدل مع الخصوم، وذلك لأن العداوة تحمل أكثر الناس على ظلم خصومهم، فقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” (المائدة8)، ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: “وأسألك كلمة الحق والعدل في الغضب والرضى” ( أخرجه النسائي 1305 والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وكذا صححه الألباني).
4- الغدر في العهد: وذلك بعدم الوفاء به، قال الله عزَّ وجلَّ: “وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا”، وقال سبحانه: “وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا”، والغدرُ حرامٌ في كلِّ عهد بين المسلم وغيره، ولو كان المعاهَد كافراً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» (البخاري 3166).

• وَمَضَاتُ الدُّرة:
في هذه الدرة النبوية من الفوائد:
1- أنَّ من حسن التعليم ذكر المعلِّم العدد قبل تفسير المعدود؛ ليكون أوقعَ في ذهن المتعلِّم.
2- التحذير من النفاق ومن خصال المنافقين.
3- أن للنفاق خصالا وشعبا من اجتمعت فيه اجتمع فيه النفاق كله، كما أن للإيمان شعبا من اجتمعت فيه حقق كمال الإيمان.
4- أن النفاق درجات كما أن الإيمان درجات.
5- التحذير من الكذب في الحديث، ومن إخلاف الوعد، وأنَّهما من خصال النفاق، كما يدل على ذلك قول الله تعالى: “فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ” (التوبة77).
6- التحذير من الفجور في الخصومة، وأنَّه من خصال النفاق.
7- التحذير من الغدر في العهود، وأنَّه من خصال النفاق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *