قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ؛ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175-176].
فهذا مثلُ عالمِ السوء الذي يعملُ بخلاف علمه.
وتأمّل ما تضمّنته هذه الآيةُ من ذمّه وذلك من وجوه:
أحدها: أنه ضلّ بعد العلمِ، واختارَ الكفرَ على الإيمانِ عمداً لا جهلاً.
وثانيها: أنه فارقَ الإيمانَ مفارقةَ مَن لا يعود إليه أبداً، فإنه انسلخ من الآياتِ بالجملة كما تنسلخُ الحيةُ من قِشْرِها، ولو بقي معه منها شيءٌ لم ينسلخ منها.
وثالثها: أن الشيطانَ أدركه ولحقه بحيثُ ظفرَ به وافترسه، ولهذا قال: {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} ولم يقل: “تبعه” فإن في معنى “أتبعه” أدركه ولحقه وهو أبلغُ من “تبعه” لفظاً ومعنىً.
ورابعها: أنه غوى بعد الرشد، والغي: الضلالُ في العلم والقصد، وهو أخصّ بفساد القصد والعمل، كما أن الضلالَ أخصّ بفسادِ العلمِ والاعتقادِ، فإذا أُفرد أحدهما دخل فيه الآخرُ، وإن اقترنا فالفرق ما ذُكر.
وخامسها: أنه سبحانه لم يشأ أن يرفعَه بالعلم فكان سببَ هلاكه؛ لأنه لم يرفع به، فصار وبالاً عليه، فلو لم يكن عالماً كان خيراً له وأخفّ لعذابه.
وسادسها: أنه سبحانه أخبرَ عن خِسّةِ همته، وأنه اختارَ الأسفلَ الأدنى على الأشرفِ الأعلى.
وسابعها: أنّ اختيارَه للأدنى لم يكن عن خاطرٍ وحديثِ نفسٍ، ولكنه كان عن إخلادٍ إلى الأرضِ، وميلٍ بكُلِّيته إلى ما هناك.
وثامنها: أنه رغبَ عن هداه واتّبع هواه، فجعل هواه إماماً له يقتدي به ويتبعه.
وتاسعها: أنه شبّهه بالكلب الذي هو أخسُّ الحيوانات همةً، وأسقطُها نفساً، وأبخلها وأشدها كلباً؛ ولهذا سُمّي كلباً.
وعاشرها: أنه شبّه لهثَه على الدنيا، وعدمَ صبرِه عنها، وجزعَه لفقدها، وحرصَه على تحصيلها بلهثِ الكلب في حالتي تركه والحمل عليه بالطرد، وهكذا هذا إنْ تُرِكَ فهو لهثان على الدنيا، وإنْ وُعِظَ وزُجِرَ فهو كذلك ، فاللهث لا يفارقه في كل حالٍ كلهث الكلب. (من كتاب الفوائد للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى؛ ص:150-152).