من درر السنة النبوية ذ.محمد أبوالفتح

• الدُرَّة المنتقاة :

عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: جَاءَتْ مَلاَئِكَةٌ إِلَى النَّبِي (صلى الله عليه وسلم) وَهْوَ نَائِمٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ. فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلاً، فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلاً. فَقَالَ: بَعْضُهُمْ إِنَّهُ نَائِمٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ. فَقَالُوا: مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ؛ دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِي؛ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ. فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا. فَقَالَ: بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ. فَقَالُوا: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم) فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم ) فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ. أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (7281).

• تأملات في الدُّرة:
في هذه الدُّرة النبوية يخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ملائكة كرام جاؤوا إليه عليه الصلاة والسلام في نومه مُعَلِّمين، ومن المعلوم أن الملائكة لا تَتَنَـزَّلُ إلا بأمرٍ من الله تعالى، كما قال سبحانه عنهم: “وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً” (مريم64)، فهم “لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ” (التحريم6).
فالله تعالى إذاً أرسلهم ليُعَلِّموا نَبِيَّه شيئا من الحكمة فوجدوه نائما، فقال بعضهم: “إنه نائم”، أيْ: فكيف نُكَلِّم رجلا نائما؟! فأجاب بعضهم: “إن العينَ نائمةٌ والقلبَ يقظان”، أيْ: إنَّ قلبَه مستيقظٌ غيرُ غافل عنكم، فلا مانع من أن تخاطبوه بما تريدون.
فقال بعضهم: “إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلاً فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلاً”: أي: مثلاً له ولأمته (كما ورد في بعض الروايات).
ونَظَراً لِكَوْنِ مخاطبةِ النائم أمراً عجيبا خارجا عن العادة، قال بعضُهم مرة ثانية: “إنه نائم”، فأجابوه بالجواب الأول تأكيدا له وتَطْمِيناً.
ثم قالوا في مَثَلِهِم: ” مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا، وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِي؛ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِي؛ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ”. أي: مثل النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته الناس إلى الخير، كمثل رجل بنى دارا، وصنع طعاما، ثم أرسل داعيا يدعو الناس إلى طعامه، فمن أجاب الدعوة دخل الدار وأكل الطعام، ومن لم يجب الدعوة فاته دخول الدار والأكل من الطعام.
وجاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن الملائكة قالوا: “اضربوا له مثلا، مثل سَيِّدٍ بَنَى قَصْرًا، ثم جعل مأدبة، فدعا الناس إلى طعامه وشرابه، فمن أجابه أكل من طعامه وشرب من شرابه، ومن لم يجبه عاقبه، أو قال عذبه” (أخرجه الترمذي وصححه وكذلك قال الألباني: حسن صحيح). وفي هذه الرواية أن من لم يجب الدعوة يعاقب زيادة على ما فاته من الخير.
ثم قالوا: “أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا”، أي: فسروا له هذا المثل ليفهم المقصود منه.
فقال بعضهم إمعانا في التعجب: “إنه نائم”، فأجابوه بالجواب الأول.
ثم فسروا له المثل “فَقَالُوا: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ، وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ”، وفي حديث ابن مسعود أن المقصود بالذي بنى الدار وأرسل الداعي هو الله تبارك وتعالى.
ثم قالوا: “فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) فَقَدْ عَصَى اللَّهَ”: وذلك لأنه مبلغ عنه، داع إلى جنته.
قالوا: “وَمُحَمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ”: أي: يفترق الناس فيه إلى مؤمن وكافر، ومطيع لله وعاص لأمره.

• وَمَضَاتُ الدُّرة :
في هذه الدرة النبوية من الفوائد:
1. أن النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه.
2. أن نوم النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن خاليا من العلم والذكر لله عز وجل.
3. أن رؤيا الأنبياء وحي، كما قال التابعي الكبير عبيد بن عمير، واحتج بقول إبراهيم عليه الصلاة السلام: “إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ” (أخرجه البخاري عنه معلقا).
4. أن ضرب الأمثال أسلوب رباني لا ينبغي أن يغفل عنه المربون والمعلمون، وذلك لأن المثل يقرب المعاني إلى الأفهام فلا تلتبس، ويُرسخها في الأذهان فلا تنسى، ولهذا نجد كثرة الأمثال في القرآن والسنة، حتى ألف فيها العلماء مؤلفات خاصة .
5. أن طاعةَ الرسول صلى الله عليه وسلم طاعةٌ لله، ومعصيته معصية لله، كما قال تعالى: “مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً” (النساء80).
6. أن الله تعالى يُعبد طمعا في جنته التي أعدها لعباده، وخوفا من عذابه، وليس محبة فقط كما يزعم الصوفية. وأن قولهم: “نحن ندعو الله تعالى محبة لا طمعا في جنته ولا خوفا من عذابه”، سوء أدب مع الله تعالى، لأنه تبارك وتعالى خلق الجنة ليُكرم بها أولياءه، وخلق النار ليخوف بها عباده، والصوفية قالوا له بلسان الحال: “أما جنتك فلا حاجة بنا إليها، وأما نارُك فلا تُخوفنا”، وقالوا للداعي الذي جاء يدعوهم إلى المأدبة: قل للذي بعثك: “لا رغبة لنا في دخول دارك، ولا حاجة بنا إلى الأكل من طعامك”. فأساؤوا الأدب مع ربهم، وفاتهم أن الخوف من عذاب الله، والرجاء فيما عنده، كلاهما عبادة قلبية، وفي كل منها انكسار وتذلل وخضوع لرب العباد.
وقد أثنى الله تعالى على أنبيائه وصفوته من خلقه فقال: “إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ” (الأنبياء90). وأمر عباده بأن يعبدوه خوفا وطمعا فقال: “وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ” (الأعراف56). ولكن بعض الناس ضاقت قلوبهم عن أن تتسع لأكثر من عبادة واحدة، فتجمع بين عبادات: الحب والخوف والرجاء.
7. أن النبي صلى الله عليه وسلم فَرَّق بين أهل الطاعة الإيمان وبين أهل الكفر والعصيان، وأن الاجتماع إنما يُحمد إذا كان اجتماعا على الحق، وأما الاجتماع على الباطل فالافتراق خير منه، وفي هذا رد على الجماعات الإسلامية التي ترفع شعار “ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه” من غير تمييز بين ما يسوغ فيه الاختلاف وما لا يسوغ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *