لا يزال الحديث موصولا عن الوصايا التي يحتاجها التجار، قد مضى منها خمس وهذه خمس تتلوها، فتلك عشرة كاملة.
أسأل الله أن ينفع بها الجميع.
الوصية السادسة: الحث على السهولة والسماحة في المعاملة
لما روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى”، ومعنى سمحا: أي سهلا وجوادا يتجاوز عن بعض حقه، كما ذكر القاري.
وقوله صلى الله عليه وسلم: إذا اقتضى: أي إذا طلب دينا له على غريم يطلبه بالرفق واللطف لا بالخُرق(1) والعنف، قاله القاري أيضا.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (4/388): وفيه الحض على السماحة في المعاملة واستعمال معالي الأخلاق وترك المشاحة، والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة، وأخذ العفو منهم.
الوصية السابعة: الحث على التزام الصدق والبيان، والتحذير من الكذب والكتمان
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) التوبة:119.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء” رواه الترمذي وحسنه الألباني.
وفي الصحيحين من حديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “البيِّعان(2) بالخيار مالم يفترقا، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحِقت بركة بيعهما”.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له” رواه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني.
فهذه النصوص تقتضي من البائع الصدقَ في البيع، وبيانَ ما في السلع من عيب إن كان فيها عيبٌ، ليكون المشتري على بصيرة، وينقطع دابر النزاع، وينتفي الضرر عنهما جميعا، وهذا للأسف أمر ضيعه كثير من التجار، فتجد الواحد منهم يبيع السلع وهو يعلم عيبها دون أن يخبر المشتري بذلك، أو يشهد لسلعته دون تثبت أنها أحسن ما في السوق. طمعا في تحصيل ربح عاجل، وحقيق بمن فعل ذلك أن يمحق الله بركة صفقته، فتصير بعدما كان يؤمل من الربح والكثرة إلى خسران وقلة.
الوصية الثامنة: وجوب النصح للمشتري والتحذير من الخيانة
فعن جرير بن عبد الله قال: “بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم” رواه البخاري، قال الحافظ بن حجر: ورواه بن حبان من طريق أبي زرعة بن عمر بن جرير عن جده وزاد فيه: فكان جرير إذا اشترى شيئا أو باع يقول لصاحبه: اعلم أن ما أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناك فاختر.
وروى الطبراني في ترجمته (يعني جريرا) أن غلامه اشترى له فرسا بثلاثمائة، فلما رآه جاء إلى صاحبه، فقال: إن فرسك خير من ثلاثمائة، فلم يزل يزيده حتى أعطاه ثمانمائة(3).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من أُفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه” رواه أبو داود وحسنه الألباني.
الوصية التاسعة: إياك والحلف في البيع
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “الحلف منفقة(4) للسلعة ممحقة(5) للبركة” رواه البخاري ومسلم.
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أُشَيْمِطٌ (أي شيخ) زان، وعائل (أي فقير) مستكبر، ورجل جعل اللهَ بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه” رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان، وصححه الألباني.
الوصية العاشرة: الحث على تكفير ما يكون في البيع من اللغو والحلف ونحو ذلك بالصدقة
لقوله صلى الله عليه وسلم: “يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة” رواه أبو داود من حديث قيس بن أبي غرزة، وصححه الألباني، وفي رواية للترمذي: “يا معشر التجار إن الشيطان والإثم يحضران البيع فشوبوا بيعكم بالصدقة” (وهذه صدقة غير معلومة المقدار أُمر بها التُجار لتكون لهم كفارة من اللغو والحلف) ذكره الخطابي بمعناه.
والله ولي التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1)- قال في القاموس المحيط: والخُرق بالضم وبالتحريك: ضد الرفق.
2)- أي البائع والمشتري.
3)- فتح الباري (1/183).
4)- من النفاق بفتح النون وهو الرواج ضد الكساد.
5)- من المحق وهو النقص والإبطال.