من فقه البيوع النوع الثالث من البيوع المحرمة: بيوع الربا (الحلقة التاسعة) من أحكام صرف العملات ياسين رخصي

سبق في الحلقة الماضية الكلام عن حقيقة الأوراق النقدية وتكييفها الفقهي، وخلاف العلماء في ذلك، وأن الذي عليه المجامع الفقهية وكثير من الهيئات العلمية الشرعية، أن الورق النقدي يعتبر نقدا قائما بذاته، وأن له حكم الذهب والفضة من حيث أحكام الربا، ووجوب الزكاة فيه وغير ذلك من الأحكام.

الأوراق النقدية أجناس
إذا عرفت هذا فإنه قد جاء في قرار المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، وغيرهما من الهيئات الشرعية: أن الورق النقدي أجناس مختلفة تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة، بمعنى أن الورق النقدي المغربي جنس، وأن الورق النقدي الأمريكي جنس، وهكذا كل عملة ورقية جنس مستقل بذاته.

دليل كون ضابط الجنس هو جهة الإصدار
والدليل على أن ضابط الجنس هو جهة الإصدار: اختلاف جهات الإصدار فيما تتخذه من أسباب لتحقيق الثقة بالأوراق النقدية واكتساب القبول العام، وكذا اختلاف هذه الجهات قوة وضعفا في السلطان والاقتصاد، وغير ذلك مما هو سبب في اختلاف قيمة الأوراق النقدية.

الأحكام المترتبة على اعتبار الأوراق النقدية أجناسا
يترتب على اعتبار الأوراق النقدية أجناسا تتعدد بتعدد جهات الإصدار جريان الربا بنوعيه -ربا الفضل وربا النسيئة- في هذه الأوراق كما يجري بنوعيه في الذهب والفضة، وهذا يقتضي ما يلي:
أ- لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى نسيئة (أي إلى أجل) مطلقاً.
مثال ذلك: لا يجوز بيع مائة درهم مغربي بعشر دولارات أمريكية أو أقل أو أكثر نسيئة (إلى أجل) بل يشترط التقابض في مجلس العقد.
ب- لا يجوز بيع الجنس الواحد منه بعضه ببعض متفاضلا، سواء أكان ذلك نسيئة أو يدا بيد.
مثال ذلك: لا يجوز بيع مائة درهم ورق بمائة وعشرين درهما ورقاً، سواء كان ذلك يدا بيد أو كان نسيئة.
وأما التفاضل في صرف الأوراق النقدية بالعملات المعدنية حال كون الجهة المصدرة لهما واحدة فمن نظر إلى أنهما جنسان مختلفان -بمعنى أن الورق جنس وأن العملة المعدنية جنس، وأنهما مختلفان في الحقيقة- أجاز التفاضل. ومن اعتبرها جنسا واحدا، باعتبار أن الجهة المصدرة لهما واحدة، منع التفاضل وهذا القول أحوط والعلم عند الله تعالى.
ج- يجوز التفاضل في بيع الأجناس المختلفة مطلقاً إذا كان يداً بيد.
مثال ذلك: يجوز بيع أو صرف -كما يعبر الفقهاء- مائة درهم مغربي بعشرة دولارات أو أقل أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاثة أريلة سعودية أو أقل أو أكثر إذا كان يداً بيد.
وبذلك يعلم أن التجارة في العملات أمر جائز، لكن ما يفعله بعض الناس من شراء بعض العملات كالأورو مثلا مع تأخير دفع ما يقابلها من الدراهم غير جائز، وكذلك لا يصلح أن يتفرق المتبايعان وبينهما شيء، مثل أن يصرف رجل مائة درهم بعشرة أوروات، فيأخذ ستة ويبقي الأربعة إلى أجل، لأنه يشترط لصحة الصرف حصول التقابض في مجلس العقد، وذلك لأن الأجناس الربوية إذا اختلفت حل التفاضل بينها وحَرُمَ النَّساء(2).
والأصل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: “الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد”(1)، وبما أن علة جريان الربا في الذهب والفضة هي الثمنية، وهي متحققة في الأوراق النقدية، فإنه يشترط لصحة بيع إحدى العملتين بالأخرى إذا كانتا من جنس واحد التماثل والتقابض في مجلس العقد لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا(3) بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز(4)”(5).
وأما إذا اختلفت العملتان جاز التفاضل بينهما، لأنهما جنسان مختلفان لكن يشترط لصحة ذلك حصول التقابض في مجلس العقد -كما سلف بيانه- لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد”.
والله الموفق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- رواه مسلم من حديث عبادة بن الصامت.
(2)- أنظر مجلة البحوث الإسلامية المجلد الأول-العدد الأول، ص:201-210، الزيادة وأثرها في المعاوضات المالية، لعبد الرؤوف الكمالي (2/619).
(3)- تشفوا: بضم التاء وكسر الشين المعجمة وتشديد الفاء: أي لا تفضلوا. والشف بكسر الشين، ويطلف أيضا على النقصان فهو من الأضداد. شرح مسلم للنووي (11/10).
(4)- بناجز: أي بحاضر، أنظر فتح الباري (4/380).
(5)- رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *