من دُرَرِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ (الحلقة االثاني عشرة) ذ.محمد أبوالفتح

• الدُرَّة المنتقاة:

عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ: «إِنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لاَ يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ؛ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ؛ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ؛ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ؛ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِي الْقَلْبُ» متفق عليه.

• تأملات في الدُّرة:
في هذه الدرة النبوية قَسَّمَ النبي صلى الله عليه وسلم الأشياء إلى أقسام ثلاثة:
*القسم الأول: الحلال البَيِّن الواضح الذي لا لبس فيه.
*القسم الثاني: الحرام البين الواضح الذي لا لبس فيه.
*القسم الثالث: الشبهات، وهو قسم واقع بين القسم الأول والثاني، يلتبس على أكثر الناس، فلا يعرفون من أي القسمين هو.
فأما القسم الأول -وهو الحلال البين- فلا حرج فيه على العبد، وأما القسم الثاني -وهو الحرام البين- فيجب على المسلم اجتنابه.
وقد أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن ذكر حكم هذين القسمين لكونه معلوما عند الناس جميعا، ثم فصل القول في القسم الثالث لكونه محل الإشكال عند أكثر الناس، فأرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى ترك الشبهات، لنستبرئ لديننا فيما بيننا وبين الله تعالى، وذلك بالسلامة من الوقوع فيما يفسد علينا ديننا، ولنستبرئ لأعراضنا فيما بيننا وبين الناس، وذلك بأن نسلم من كلام الناس وطعنهم في أعراضنا.
ونبهنا صلى الله عليه وسلم أن التساهل في إتيان الشبهات يؤول بصاحبه إلى الوقوع في المحرمات.
ثم ضرب لنا صلى الله عليه وسلم مثلا حسيا، يتضح به المقال، ويتبين به المراد غاية البيان، فشبه صلى الله عليه وسلم الواقع في الشبهات بذلك الراعي الذي لا يتورع عن رعي غنمه قريبا من حمى الملك -وهي بلغة العصر أرض الدولة الممنوعة على الناس- فإنه والحالة هذه لا يأمن أن تنتقل بعض أنعامه إلى الرعي في أرض الملك، ثم بين صلى الله عليه وسلم أن المراد بالحمى في هذا المثل محارم الله، وأن الواقع في الشبهات يوشك أن يواقع ما استبان من الحرام.
فَلْيَرْعَ كُلٌّ منا أنعامه بعيدا عن حمى ملك الملوك، وليجعل بينه وبين الحرام البين حاجزا مما يشك فيه، حتى يسلم له عرضه ودينه فتسلم له بذلك دنياه وآخرته.
ثم بين صلى الله عليه وسلم أن صلاح الجوارح والأعمال مرتبط بصلاح القلب، وفي هذه إشارة إلى أن من صلح قلبه بالورع والتقوى فإنه يترك الشبهات، ولا يحوم قريبا من المحرمات.

• وَمَضَاتُ الدُّرة:
في هذه الدرة من الفوائد:
1 ـ بيان تقسيم الأشياء إلى حلال بيِّن، وحرام بيِّن، ومشتبه متردّد بينهما.
2 ـ أنَّ المشتبه لا يعلمه كثير من الناس، وأنَّ قلة من أهل العلم يعلم حكمَه بدليله.
3 ـ أنه ينبغي ترك الشبهات وعدم التساهل فيها.
4ـ أنَّ في اتِّقاء الشبهات محافظة الإنسان على دينه من النقص، وصيانة لعرضه من العيب والثلب.
5- أن على المسلم بذل الأسباب الممكنة من أجل حفظ دينه.
6- أن على المسلم بذل الأسباب الممكنة من أجل صيانة عرضه.
7 ـ مشروعية ضرب الأمثال بتشبيه الأمور المعنوية بأمور حسية؛ وذلك لأن المثل يقرب المعاني إلى الأفهام فتوعى، ويرسخها في الأذهان فلا تنسى.
8 ـ أن الوقوع في الشبهات الملتبسات يؤول إلى الوقوع في المحرمات الواضحات.
9- أن سد الذرائع، وإغلاق الوسائل المفضية إلى الحرام مطلوب شرعا.
10- أنه لا بد للفقيه والمفتي من النظر في العواقب والمآلات ومراعاتها في فتاواه.
11 ـ بيان عظم شأن القلب، وأنَّ الأعضاءَ تابعةٌ له، تصلح بصلاحه وتفسد بفساده.
12 ـ أنَّ فسادَ الظاهر دليلٌ على فساد الباطن، وفي هذا إبطال لما يزعمه بعض الناس من كون الإيمان محصورا في القلب، بل الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *