من فقه البيوع الأعيان التي يحرم بيعها (3) ياسين رخصي

عن أبي مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم “نهى عن ثمن الكلب ومَهر البغِيّ وحُلوان الكاهن” رواه البخاري ومسلم.

وعن أبي الزبير قال: “سألت جابراً عن ثمن الكلب والسِّنَّوْر (القط) فقال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك” رواه مسلم.
تضمن الحديثان حكم أربعة أمور:
أحدها ثمن الكلب، ثانيها ثمن السِّنَّوْر، ثالثها مهر البغي، ورابعها حُلوان الكاهن.
أما الحكمان الأولان فيدخلان فيما نهي عن بيعه من الأعيان، وأما الأخيران فيدخلان فيما نهي عن بيعه من المنافع، فحقهما أن يُذكرا في أبواب الإجارة إذ الإجارة صنف من البيع موردها المنافع. وإنما نذكر هذين الحكمين في هذا الموضع لما في ذلك من الفائدة.
1- حكم ثمن الكلب
قد تقدم في العدد السابق أن جمهور أهل العلم على تحريمه مطلقا.
2- حكم ثمن السِّنَّوْر
قال ابن القيم رحمه الله: “الحكم الثاني: تحريم بيع السِّنَّوْر، كما دل عليه الحديث الصحيح الصريح الذي رواه جابر، وأفتى بموجبه.. وهو الصواب لصحة الحديث بذلك وعدم ما يعارضه، فوجب القول به”(1).
وقال الشوكاني رحمه الله: “وذهب الجمهور إلى جواز بيعه، وأجابوا عن هذا الحديث -يعني حديث جابر المتقدم- بما تقدم من تضعيفه، وقد عرفت دفع ذلك، وقيل إنه يحمل النهي على كراهة التنزيه، وأن بيعه ليس من مكارم الأخلاق ولا من المروءات، ولا يخفى أن هذا إخراج للنهي عن معناه الحقيقي بلا مقتضى”(2).
قال ابن حزم في المحلى (9/13):
“مسألة: ولا يحل بيع الهر لمن اضطر إليه لأذى الفأر فواجب على من عنده منها فضل عن حاجته أن يعطيه منها ما يدفع به الله تعالى عنه الضرر كما قلنا فيمن اضطر إلى الكلب ولا فرق”.
ولا يلزم من تحريم بيع الهر تحريم اقتنائه لورود النصوص بجواز ذلك.
3- حكم مهر البغي
قال الشوكاني رحمه الله: “والمراد ما تأخذه الزانية على الزنا وهو مجمع على تحريمه، والبَغِيُّ بفتح الموحدة وكسر المعجمة وتشديد التحتانية، وأصل البَغْي: الطلب، غير أنه أكثر ما يستعمل في الفساد”(3).
مسألة: قال ابن القيم رحمه الله: “فإن قيل: فما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته ثم تابت، هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه، أم يطيب لها، أم تصدَّق به؟
قيل: هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهي أن مَن قبض ما ليس له قبضُه شرعا، ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أُخِذ بغير رضى صاحبه، ولا استوفى عِوضه، ردَّه عليه. فإن تعذر ردُّه عليه، قضى به دينا يعلمه عليه، فإن تعذر ذلك، رده إلى ورثته، فإن تعذر ذلك، تصدق به عنه، فإن اختار صاحبُ الحق ثوابَه يوم القيامة، كان له. وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض، استوفى منه نظيرَ ماله، وكان ثوابُ الصدقة للمتصدق بها، كما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم.
وإن كان المقبوض برضى الدافع وقد استوفى عِوضه المحرم، كمن عاوض على خمر أو خنزير، أو على زنى أو فاحشة، فهذا لا يجب ردُّ العوض على الدافع، لأنه أخرجه باختياره، واستوفى عوضه المحرم، فلا يجوز أن يجمع له بين العِوَضِ والمُعَوَّض(4)… فطريق التخلص منه، وتمام التوبة بالصدقة به، فإن كان محتاجا إليه، فله أن يأخذ قدر حاجته، ويتصدق بالباقي، فهذا حُكم كل كسب خبيث لِخبث عوضه عينا كان أو منفعة، ولا يلزم من الحكم بخبثه وجوبُ رده على الدافع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخبث كسب الحجام، ولا يجب رده على دافعه”(5).
4- حكم حُلوان الكاهن
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “الحكم الرابع: حُلوان الكاهن، وهو حرام بالإجماع لما فيه من أخذ العوض على أمر باطل، وفي معناه التنجيم والضرب بالحصى، وغير ذلك مما يتعاطاه العرَّافُُون من استطلاع الغيب. والحُلوان: مصدر حَلَوْتُهُ حُلوَانا: إذا أعطيته، وأصله من الحلاوة، شبه بالشيء الحلو من حيث أنه يأخذه بلا كلفة ولا مشقة، يقال حلوته: إذا أطعمته الحلو، والحُلوان أيضا: الرشوة”(6).
وورد في ذم الكهانة ما أخرجه مسلم من حديث امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: “من أتى عرافا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوما (أو أربعين ليلة)”.
وروى أصحاب السنن وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد”.
وقد حمَل العلماء الحديثين على حالين مختلفين:
الحال الأولى: أن يأتي الكاهن فيسأله من غير أن يصدقه، فهذا محرم وعقوبة فاعله أن لا تقبل له صلاة أربعين يوما.
الحال الثانية: أن يأتيه فيصدقه بما أخبر به، فهذا كفر بالله عز وجل، لأنه صدقه في دعوى علم الغيب، وتصديق البشر في دعوى علم الغيب تكذيب لقوله تعالى: (قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ)”(7).
ومن هذا الباب تصديق أصحاب الأبراج فيما يدعون من علم الغيب، وهذا بلاء قد تنجست به صفحات كثير من الصحف والمجلات، وإلى الله المشتكى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1)- “زاد المعاد” (5/685).
2)- “نيل الأوطار” (4/10).
3)- المصدر السابق (4/9).
4)- أي: لا يجمع له بين ما دفع (وهو العِوَض)، وما حصَّله من المنفعة المحرمة (وهو المُعَوَّض).
5)- “زاد المعاد” (5/691-690).
6)- “فتح الباري” (4/539).
7)- انظر “مجموع الفتاوى” للشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *