وممن تأوّل صفة الرحمة، الأشاعرة الذين قالوا: إن المقصود بالرحمة إرادة الإحسان أو الإحسان نفسه ، وهذا حالهم مع كثير من الصفات حيث أوّلوها بإرادة كذا، لأنها -أي الإرادة- من الصفات السبع التي أثبتوها، قالوا نثبتها لأن العقل يدل عليها، فهذا التخصيص، أي: تخصيص المخلوقات بما هي عليه دال على الإرادة.
ويرد عليهم أن دلالة النعم على صفة الرحمة أعظم وأظهر وأوضح من دلالة التخصيص على الإرادة، فإن الأول يعلمه كل أحد بخلاف الثاني فلا يعلمه إلا القليل.
كما أن الإحسان الذي فسّروا به الرحمة من لوازمها، وكما يقول ابن القيم: “فإن إرادته الإحسان هي من لوازم الرحمة، فإنه يلزم من الرحمة أن يريد الإحسان إلى المرحوم، فإذا انتفت حقيقة الرحمة انتفى لازمها وهو إرادة الإحسان” .
يقول الشيخ ابن عثيميين رحمه الله في الرد على من يزعم أن العقل لا يدل على صفة الرحمة:
(ونحن نرد عليهم من وجهين: يالتسليم والمنع:
– التسليم: أن نقول هب أن العقل لا يدل عليها، ولكن السمع دلّ عليها فثبت بدليل آخر والقاعدة أن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول لأنه قد يثبت بدليل آخر.
أما المنع فنقول: إن قولكم إن العقل لا يدل على الرحمة قول باطل، بل العقل يدل على الرحمة، فهذه النعم المشهودة والمسموعة وهذه النعم المدفوعة، ما سببها، إن سببها الرحمة بلا شك) .
* ومن آثار الإيمان بهذين الاسمين: نعمه سبحانه وتعالى:
فإن كل ما ينعم به الناس من النعم سواء الدنيوية -وهذا أمر مشترك بين البر والفاجر-، أو الدينية -وهذا خاص بالمؤمن-، كل ذلك من آثار رحمته سبحانه.
فآثار رحمته جل وعلا ظاهرة بجلاء لا ينكرها أو يجحدها إلا من أزاغ الله قلبه:
– فمن ذلك أنه سبحانه خلقنا ولم يتركنا هملا بل أرسل إلينا رسولا وجعله رحمة مهداة ، وأنزل إلينا كتابا وجعله روحا ونورا ورحمة كما قال تعالى: “وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ”.
– ومن رحمته سبحانه أن تعرف إلينا بأسمائه وصفاته بواسطة كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلولا ذلك ما عرفناه سبحانه حق معرفته..
– ومن رحمته سبحانه أن سخر لنا الأرض فجعلها قرارا ذلولا والسماء فجعلها سقفا محفوظا.
– ومن رحمته تعالى أن أنزل لنا من السماء ماء طهورا.
– ومن رحمته تعالى أن قسمها مائة جزء فجعل جزءا في الأرض فبه يتراحم الخلائق، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون وبها يتراحمون وبها تعطف الوحش على ولدها- وفي رواية- حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه-، وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة” متفق عليه.
– ومن رحمته -كما يقول الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان-: “تسليط أنواع البلاء على العبد، فإنه أعلم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أغراضه وشهواته: من رحمته به، ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه، ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه”.
– ومن رحمته سبحانه بعباده: ابتلاؤهم بالأوامر والنواهي رحمة وحمية..
– ومن رحمته: أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا في النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إلى ذلك بسياط الابتلاء والامتحان.. .
– وبالجملة “فجميع ما في العالم العلوي والسفلي من حصول المنافع والمحاب والمسار والخيرات من آثار رحمته، كما أن ما صرف عنهم من المكاره والنقم والمخاوف والأخطار والمضار من آثار رحمته، فإنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو، وهو أرحم الراحمين” .