شرع الله تعالى للوارث نصيبا من تركة مُورِّثِه، وقدَّر لِكلِّ وارث نصيبه تقديرا تعجز عقول البشر -ولو اجتمعت- أن تقترح مثله، فهو سبحانه العليم بأحوال عباده وما يصلحهم، الحكيم فيما شرع لهم (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
فالميراث -إذن- بسبب شرعي ينقل ما اكتسبه المرء من مال حال حياته إلى مورثه. لكن الناس يختلفون في طرق كسبهم للمال، فمنهم من عاش تقيا كيِّسا لا يأكل إلا طيبا، ومنهم من أفنى عمره لا يأكل إلا خبيثا، ومنهم من خلط عملا صالحا وآخر سيئا، فجمع المال من حلِّه وحَرامِه، فهل يطيب للوارث ما ترك مُورِّثِه وإن كان قد اكتسبه من حرام؟
أقوال أهل العلم في هذه المسألة
القول الأول:
ذهب بعض أهل العلم إلى أن المال الحرام يطيب للوارث إذا انتقل إليه بسبب الميراث، وأنه يحل له الانتفاع به سواء كان قليلا أو كثيرا وأن الإثم على من اكتسبه.
وممن قال بهذا القول: الحسن البصري، والزهري، وسفيان الثوري، وسحنون من المالكية، وهو قول في مذهب الحنفية .
القول الثاني:
ذهب الأكثرون وهم الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الموت لا يُطَيّب المال الحرام، وأن الواجب فيه أن يرد إلى أصحابه إن أمكن وإلا يتصدق به.
وهذا القول أصح لما سيأتي.
● ومما استدل به أصحاب القول الأول أثر عن أحد الصحابة أنه قال في رجل مات وكان قد تولى عملا من أعمال السلطان: الآن طاب ماله.
– فهذا الأثر ذكره الغزالي في الإحياء ولم يذكر له العراقي تخريجا.
– ثم لو سلمنا بصحته لم يكن فيه حجة على ما أرادوا.
– كما استدلوا بقياس لا يخلوا من مناقشة.
● وقد استدل أصحاب القول الثاني لما ذهبوا إليه بما يلي:
أولا: أن المال المحرم لا يدخل في ملك المسلم أصلا، لأن من شرط تملك المال أن يؤخذ من وجهه. قال الشاطبي رحمه الله: “المال: ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه” . ولما كان شرط ثبوت حق الوارث في الميراث أن يكون المُوَرِّث مالكا للمال الموروث، فإن ما حازه بطريق غير مشروع لا ينتقل إلى الوارث لانتفاء شرط الملك.
ثانيا: إن الموت لا يُطَيّب المال الحرام، فلو غصب رجل مال إنسان أو سرقه فإن الموت لا يخرج المال المأخوذ من ملك صاحبه ظلما وعدوانا ويدخله في ملك الوارث.
قال ابن رشد الجد من المالكية: “وأما الميراث فلا يطيب المال الحرام هذا هو الصحيح الذي يوجبه النظر. وقد روي عن بعض من تقدم أن الميراث يطيبه للوارث وليس ذلك بصحيح” .
وفي المعيار المعرب: “وقد سئل يحيى بن إبراهيم عن المال الحرام هل يحله الميراث أم لا؟ فأجاب:
لا يحل المال الحرام في قول مالك” .
[مسألة: ما الحكم فيمن ترك مالاً ولم يعلم من أين اكتسبه أمن حلال أو من حرام؟]
قال النووي: من ورث مالا ولم يعلم من أين اكتسبه مُورِّثه أمن حلال أو من حرام ولم تكن علامة ، فهو حلال بإجماع العلماء، فإن علم أن فيه حراما وشك في قدره أخرج الحرام بالاجتهاد .
[مسألة: ما الحكم فيمن ترك مالا من حلال وحرام؟]
– قال القاضي أبو يعلى: “.. فإن لم يعلم كم الحلال يتصدق بقدر ما يرى أن فيه من الحرام ويأكل الباقي) .
– وقد سئل شيخ الإسلام عن رجل مرابٍ خلف مالا وولدا وهو يعلم بحاله فهل يكون حلالا للولد بالميراث أو لا؟ فأجاب:
“أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه، إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن وإلا يتصدّق به، والباقي لا يحرم عليه. لكن القدر المشتبه يستحب له تركه إذا لم يجب صرفه في قضاء دين أو نفقة عيال..) .
وبالله التوفيق.