فقه الصمت (3) عبد القادر دغوتي أقسام الصمت (تتمة)

ب- صمت مذموم:
إذا كان الصمت في بعض الأحيان والأحوال مطلوبا ومأمورا به شرعا، فإنه يكون في أحوال أخرى مذموما ومنهيا عنه؛ ومن ذلك:
– الصمت عن معروف يتعيّن الأمر به، أو عن منكر يتعيّن النهي عنه:
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لمن أعظم فرائض الدين؛ وقد أفادت فرضيته آيات وأحاديث من كتاب الله تعالى وسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فمن الكتاب:
– قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} (آل عمران: 104).
– وقوله جل وعلا: {كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} (آل عمران: 110).
– وقوله: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} (التوبة: 71).
ومن السنة:
– قول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»(1).
– وقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي حذيفة رضي الله عنه: «والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، فتدعونه فلا يستجيب لكم»(2).
وقد حذر الله تعالى من تضييع هذه الفريضة، وبين أن ذلك يستوجب الذم واللعن؛ كما حصل في أمم سابقة.
– قال تعالى: {لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبيس ما كانوا يفعلون} (المائدة: 79).
– وقال في سياق الإنكار على علمائهم وأرباب الولايات عليهم، لمّا تركوا النهي عن المنكر: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت، لبيس ما كانوا يصنعون} (المائدة: 63).
– وعن علي رضي الله عنه، أنه خطب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار، فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات؛ فمُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ولا يُقرّب أجلا»(3).
فالحاصل أن من الصمت المعيب والمنهي عنه شرعا: صمت عن معروف يلزم الأمر به، أو منكر يجب النهي عنه؛ فالساكت في مثل هذا الموضع مع القدرة على الإنكار والتغيير يأثم.
– الصمت عن نصرة المظلوم:
نصرة المظلوم صورة من صور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ثم فلا يشرع الصمت عن ظلم ظالم أو عن ظلم يلحق مظلوما في نفسه وعرضه وماله، وإنما يجب الإنكار قدر المستطاع.
ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنصر أخاك ظالما أو مظلوما؛ قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟؛ قال: تأخذ فوق يديه»(4).
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه قال: «أيها الناس، إنكم تقرأون هذه الآية: {يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة: 105)، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا ظالما فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه»(5).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من امرئ مسلم يخذل امرأً مسلما في موطن تُنتهك فيه حرمته ويُنتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته؛ وما من امرئ ينصر مسلما في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته»(6).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان…، رقم: 49.
(2)- سنن الترمذي، كتاب الفتن، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رقم: 2169.
(3)- تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ج. 3، ص. 88، مكتبة الصفا، ط. 1 (1425هـ-2004م).
(4)- صحيح البخاري، كتب المظالم والغصب، باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما، رقم: 2444.
(5)- سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة، رقم: 3057، وصححه الألباني في تعليقاته على سنن الترمذي.
(6)- سنن أبي داود، رقم: 4884، وانظر صحيح الجامع، للألباني رحمه الله، رقم: 5690.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *