من فقه البيوع النوع الخامس من البيوع المحرمة: البيوع المحرمة لأجل الضرر أو الغبن [الزيادة في ثمن المبيع زيادة فاحشة] (تتمة)

المسألة الثانية: حكم البيع الذي وقع فيه الغبن من حيث اللزوم وعدمه 

سبق في الحلقة الماضية الكلام عن حكم الغبن الفاحش في البيع، وأنه محرم لما فيه من الغش والخديعة وخلاف النصيحة، ولكن ما حكم البيع الذي وقع فيه هذا الغبن دون علم المغبون؟ هل يكون لازما للمتبايعين لا يجوز فسخه أو أنه يثبت الخيار للمغبون بسبب غبنه؟
* اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال؛ أشهرها قولان:
القول الأول: أنه يثبت الخيار للمغبون بين الفسخ والإمضاء إذا غُبن غبنا يخرج عن العادة والعرف فيما يربحه الناس، وهذا قول أحمد وأحد قولي مالك كما حكاه الحافظ في الفتح1.
القول الثاني: أن البيع لازم وليس للمغبون فسخه وهذا قول الشافعية، وبعض الحنفية2.

أدلة القولين:
أدلة القول الأول:
الدليل الأول: قول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ”.
وجه الدلالة من الآية: أن الآية نهت عن أكل الأموال بالباطل والأصل في النهي التحريم، والغبن المخالف للعادة من أكل أموال الناس بالباطل، فيكون حراما، وإذا ثبتت الحرمة كان البيع مُتَوَقِّفا على رضا المغبون، فإن أجازه وإلا فسخ.
الدليل الثاني: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “أن رجلا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع، فقال: “إذا بايعت فقل لا خِلابة” متفق عليه واللفظ للبخاري.
وقوله لا خلابة: بكسر المعجمة وتخفيف اللام أي لا خديعة.
وفي رواية للبيهقي: “..إذا بايعت فقل لا خلابة ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال فإن رضيت فأمسك وإن سخطت فاردد..”.
* وقد نوقِش هذا الدليل بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جعل له الخيار لضعف عقله كما روى أصحاب السنن وصححه الترمذي: “أن رجلا على عهد محمد صلى الله عليه وسلم كان يبتاع وفي عُقدته ضعف..”.
أي في عقله ضعف، قال ابن الأثير: “أي في رأيه ونظره في مصالح نفسه”3.
فقال بعض أهل العلم إنما جَعَلَ لَهُ النبي صلى الله عليه وسلم الخيار لضعف عقله، ولو كان الغبن يُملك به الفسخ، لما احتاج إلى شرط الخيار.
* وأجيب عن هذا الوجه من المناقشة: باحتمال أن يكون أمر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل أن يقول تلك المقالة من أجل أن لا يُنازع في إثبات حقه في الخيار فيما لو لم يقل ذلك. فلا يكون في ذلك دليل على انتفاء حقه بالخيار إذا لم يقل تلك المقالة حتى وإن غبن، وإنما ذلك الشرط لرفع النزاع.
وقد قوى هذا الوجه الشيخ ابن عثيمين في شرح بلوغ المرام 4.
الدليل الثالث: القياس
استدل القائلون بثبوت الخيار للمغبون أيضا بالقياس على ثبوت الخيار في تلقي الركبان، بجامع الغبن في كل منهما، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :”لا تلقوا الركبان..” متفق عليه، وفي رواية لمسلم “لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار” -والجلب: مصدر بمعنى المجلوب- أي السلع التي تجلب من محل إلى غيره لتباع فيه.
فإثبات الخيار للبائع إذا أتى السوق لأنه قبل ذلك يكون جاهلا بقيمة السلع، فيكون في الشراء منه في هذه الحال إضرار به وغبن له، فهذه علة النهي كما قال أكثر الفقهاء، فهكذا يكون حكم كل جاهل بالقيمة إذا غبن، لتحقق العلة فيه.
أدلة القول الثاني:
استدل القائلون بأن من غبن غبنا فاحشا أن البيع يلزمه وليس له فسخه بدليلين قياسيّين:
الدليل الأول: القياس على بيع غير المسترسل أي بالقياس على العالم بقيم السلع والذي يحسن المبايعة بجامع أن البيع في كل منهما وقع عن تراض وليس هناك دليل يثبت الخيار.
* وأجيب بأن هذا قياس مع الفارق، إذ أن غير المسترسل دخل على بصيرة بالغبن فهو كالعالم بالعيب.
الدليل الثاني: القياس على الغبن اليسير بجامع أن البيع في كل منهما وقع عن تراض وليس هناك دليل يثبت الخيار.
* وأجيب بأن هذا قياس مع الفارق أيضا إذ أن الغبن اليسير يتسامح فيه عادة ولا يمكن التحرز منه غالبا، بخلاف الغبن الفاحش.
وبالنظر في أدلة الفريقين يظهر أن القول الأول أقرب إلى الصواب، والله أعلم.
وبالله التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- فتح الباري 4/427.
2- انظر تفصيل باقي الأقوال وأدلتها في (الزيادة وأثرها في المعاوضات المالية) لعبد الرؤوف الكمالي 1/41-55.
3- النهاية 3/370.
4- فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام 4/9.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *