من فقه البيوع أحكام المال الحرام (الحلقة العاشرة) معاملة أصحاب المال الحرام (تابع) [معاملة المسلم الذي وقع الشك في وجود الحرام في ماله]

من المسائل التي تتصل بأحكام معاملة أصحاب المال الحرام: حكم معاملة المسلم الذي وقع الشك في وجود الحرام في ماله.
– ينبغي في هذا المقام أن نُفرق بين مستور الحال الذي لا يُدرى من أين اكتسب ماله أمن حلال أم من حرام، وبين من شككنا في وجود الحرام في ماله بسبب أمارة تدل على ذلك.

الحال الأولى: معاملة مستور الحال:
إن المسلم المستور لا شبهة في معاملته، وقبول هديته، وأكل طعامه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “والأصل فيما بيد المسلم أن يكون ملكاً له إن ادعى أنه ملكه، أو يكون ولياً عليه كناظر الوقف، وولي اليتيم، وولي بيت المال أو يكون وكيلا فيه، وما تصرف فيه المسلم أو الذمي بطريق الملك أو الولاية جاز تصرفه، فإذا لم أعلم حال ذلك المال الذي بيده بنيت الأمر على الأصل، ثم إن كان الدرهم في نفس الأمر قد غصبه هو ولم أعلم أنا، كنت جاهلاً بذلك والمجهول كالمعدوم.. وأما المسلم المستور فلا شبهة في معاملته أصلاً، ومن ترك معاملته ورعا كان قد ابتدع في الدين بدعة ما أنزل الله بها من سلطان” 1.
وقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا دخل أحدكم على أخيه المسلم فأطعمه طعاما فليأكل من طعامه ولا يسأله عنه، وإن سقاه شرابا من شرابه فليشرب من شرابه ولا يسأله عنه” 2.
وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: “إذا دخلت على مسلم لا يتهم فكل من طعامه واشرب من شرابه”.
وأخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما واللفظ لمسلم أن رجلاً من الأنصار يقال له أبو شعيب وكان له غلام لحام، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف في وجهه الجوع فقال لغلامه: ويحك اصنع لنا طعاما لخمسة نفر، فإني أريد أن أدعو النبي صلى الله عليه وسلم خامس خمسة، قال: فصنع. ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه خامس خمسة”3 . قال ابن حجر: “ومطابقة الأثر -أي أثر أنس- للحديث من جهة كون اللحام لم يكن متهما، وأكل النبي صلى الله عليه وسلم من طعامه ولم يسأله”4 .

الحال الثانية: إذا وقع الشك في وجود الحرام في مال المسلم بسبب أمارة تدل على ذلك.
ففي هذه الحال إما أن يكون الشك ضعيفا لعدم قيام الأمارة القوية التي تدل على وجود الحرام، وإما هو مجرد ظن وتخمين فإن هذا الظن لا تأثير له في معاملة هذا المسلم، والشك المجرد عن الدليل لا يمنع من التعامل مع هذا المسلم وأكل طعامه وقبول هديته، فقد كان الصحابة الكرام في غزواتهم ينزلون القُرى ولا يردون القِرى، ويدخلون البلاد ولا يحترزون من الأسواق وكان الحرام موجوداً في زمانهم وما نقل عنهم سؤال إلا عن ريبة5 ، أما إن كان الشك في وجود الحرام في مال المسلم قوياً فإن الورع التوقف عن معاملته حتى نسأل عن هذا المال6 .
ويدل لأصل السؤال عند وجود الشك والريبة ما روى البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتُيَ بطعام سأل عنه: أهدية أم صدقة؟ فإن قيل صدقة. قال لأصحابه كلوا، ولم يأكل، وإن قيل هدية ضرب بيده صلى الله عليه وسلم فأكل معهم”7 . قال ابن قدامة رحمه الله: “والمشكوك فيه على ثلاثة أضرب:
الأول: ما أصله الحظر كالذبيحة في بلد فيها مجوس وعبدة أوثان يذبحون فلا يجوز شراؤها، وإن أمكن أن يكون ذابحها مسلما، لأن الأصل التحريم فلا يُزال إلا بيقين أو ظاهر، وكذلك إن كان فيها أخلاط من المسلمين والمجوس لم يجز شراؤها لذلك..
الثاني: ما أصله الإباحة كالماء يجده متغيرا لا يُعلم أبنجاسة تغير أم بغيرها فهو طاهر في الحكم، لأن الأصل الطهارة ولا تزول عنها إلا بيقين..
الثالث: ما لا يعرف له أصل كرجل في ماله حلال وحرام، فهذا هو الشبهة التي الأَوْلى تركها عملا بما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه وجد تمرة ساقطة فقال: “لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها “8 وهو من باب الورع 9.
فإن وقع العلم بعد السؤال بوجود الحرام في مال هذا المسلم فيُنظر:
* إن كان المال كله حراماً أو كان مختلطا لكن علمنا أنه عاملنا بعين المال الحرام الذي سرقه أو خانه في أمانة أو غصبه.. كان التعامل محرما -كما بينا في الحلقة الثامنة-.
* وإن كان المال مختلطا ولم نعلم هل عاملنا بعين المال المحرم أم بغيره جازت معاملته مع الكراهة -كما بينا في الحلقة التاسعة- وإن كان الأولى ترك معاملته لمكان الشبهة، والله أعلم.
وبالله التوفيق.

—————————————
1- مجموع الفتاوى (23/323).
2- رواه أحمد في مسنده وصححه الألباني في صحيح الجامع (ح518).
3- البخاري (ح5461)، مسلم شرح النووي (13/207-208).
4- فتح الباري (9/723).
5- انظر إحياء علوم الدين للغزالي (2/186-187)، أحكام المال الحرام لعباس الباز (ص:261-262).
6- انظر المجموع للنووي (9/422).
صحيح البخاري (ح:2576).
7- صحيح مسلم شرح النووي (ح:1071).
8- المغني لابن قدامة (4/334).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *